افترشن حصيرا مرّبعَ الشّكلِ، خيوطُه من حلفاء بهُت لونُها. تترقّب كلُّ واحدة دورَها، حاملةً قطعةَ قماشٍ لا يتجاوزُ مقاسُها المترين. صبيّاتُ الحوشِ الكبير؛ يمينة وأختها سعدية، برفقةِ زينبَ و حورية و فاطمة. في بيتها ذي الحجرةِ الواحدة ، جلستْ رقيّة الخيّاطةُ أمام ماكنتها، ذاتِ الطّاولةِ العتيقةِ المتآكلِ خشبُها. كان هذا كلُّ ما ورثتْه من أمِّها نجمة، التي علّمتها حرفةَ الخِياطة. تُقابلُها خزانةٌ تُدعى *الكانتارا*، لها دفّتان، لا يتجاوزُ طولُها المترَ ونصف، تضعُ فيها ملابسَها...لا يُسمعُ في هذه الحجرة الورشةِ إلاّ صوتُ المكاكينة، وحسيسُ نارِ هادئةِ ، ينبعثُ من موقدِ نحاسي صغيرٍ، وُضِع على طاولة مهترئةٍ أطرافُها . تتابعُ الصبيّاتُ مشدوهاتٍ، تحكّمَ رقيّةَ في تسيير هذه الآلة العجيبةِ، التي تحوّلُ قطعةَ قماشٍ مجهولة إلى لْباس. توازنَ حركاتِ رجليْ رقيّةَ وتناغُمَها مع حركاتِ يديْها، يشدّ نظراتهنّ. ما أحذقها! * أحلم أن أكون خيّاطة، مثل خالتي رقيّة*! قالت سعدية أصغرهن . أخذت كلّ منهنّ، تعرِضُ قطعةَ قُماشِها تِباعا. تتشابهُ هذه الأقمشةُ، وإنْ تنوّعت ألوانُها؛ على أرضيتها المشربة باللّون الأبيض النّاصع، تبعثرت أزهار، تناسقت ألوانها، بين حمرة أزهار *بن النّعمان* ، بأكمامه المنفتحة المائلة، محفوفة بأوراق خضراء، وبين النوّار البرتقالي وأقحوانات وقرنفلات، هنا و هناك... تأخذ رقيّة مقاساهنّ طولا وعرضا، أمّا عن الشّكل؛ فلا اختيار؛ *روبة* ساترة بكمّين و حزام من القماش نفسه. وسمت رقيّة كلّ قماش ،بعلامة لا تفكّ شفرتها إلاّ هي. عادت البنات بأكوام من بقايا قماش لتلبيس الدّمى ؛ فلكلّ منهنّ دمية ،تصنعها من أعواد من خشب، تركّبها؛ لتشكّل الجذع والأطراف، وللرّأس قماش مكوّر ...دون إهمال التّفاصيل الفارقة بين الجنسين ،كالضّفائر و الكحل للإناث، وللذّكور عبايات وعمائم… حان وقت تحضير كعك العيد ،لهذه المهمّة، تحلّقت جارات الحوش الكبير في فنائه، تتوسّطهن قصعات و ولوازم الكعك ...* إنّه فأل العيد ،فال الحريّة، لا بدّ منه * نطقت رحمة... امتلأ فرن سي موسى بصواني الكعك ،يضعها في الفرن الملتهب،الواحدة تلو الأخرى، فاحت روائح ماء الزّهر وحبّة الحلاوة و الشنان؛ فعطّرت الجوّ . ليلة العيد، ما أطولها، مثقلة بسواد حالك ممزوج ببرد شهر ديسمبر! لا يضيء أركان الحجرة ، إلاّ فتيلة كانكي صامدة ، تستمدّ طاقتها من غاز سائل، ينذر بنفاذه من حين لآخر. يامّا متى يصبح الحال؟ قالت سعدية . تجمّع أفراد الأسرة حول مجمر من طين، مسأنسين بما كانت تلقيه الجارة سكينة، من حكايات ؛ *لونجة بنت السلطان* *بقرة اليتامى *،إلى *حديدوان وسيسبان طاح في القدرة ما بان...* وعلى متن تتابع نبرات الحكي الممتع، بصوت سكينة الدّافئ، أخذ الكرى يداعب أجفانهم، فاستسلموا لسطان النّوم، دون مقاومة، متدثّرين ببورابح، خيوطه من صوف، يكاد يتمزّق من وسطه لشدّة التّداول على جذبه ... استقيظ الأطفال على صوت شنشنه، تنبعت من مقلاة نصبت على نار هادئة. راحت الأمّ رحمة تقلّب المسمّنات بعناية؛ رائحة مشهيّة، لمسمّن صباح العيد...! من بيت إلى آخر، راح أطفال الحوش الكبير يقومون بمغافرة الكبار، وفي أيديهم العيّادة، دورو أو زوج دورو أو حلْويات ... هرع أطفال الحوش الكبير إلى الشارع، انضمّوا إلى ولاد الحوْمة، تتشابه ألبستهم و حتّى تصفيفات الشعر، ضفائر تزيّنها حاشيات، بألوان علم الجزائر. ها هو عمّي مسعود، صاحب المركبة التي يتقدّمها فرس بنّي اللّون، يمسك لجامه عمّي مسعود بإحكام. سارع الأطفال إلى المركبة، ليطوفوا بأرجاء الحيّ الشّعبي، ملوّحين بأيديهم، تارة ومصفّقين..*تحيا الجزائر*، راحوا يهتفون بأصوات عالية ،فخورين بأعلام مهداة إليهم من عمّي الحاج، صاحب الحانوت؛ كلّ علَم عبارة عن إطار من حديد، ملحق بمسّاك، يعلّق على صدر اللّباس أو القميص ... *جاء العسكر، جاء العسكر، اهربوا!* صاح ناصر، ذو التّسعة أعوام، أكبر أولاد الجيران. تعثّرت سعدية في جريها، رجع ناصر لمساعدتها...شقّت طلقات الرّصاص سكون الفضاء، ملوّثة صفاء السّماء ...أين سعدية، أين ناصر؟ في الشارع الكبير، حول جثّتيهما الممدّدتين على الرّصيف الإسمنتي ، تبعثرت الأعلام الصّغيرة مخضّبة بالدماء. اللّه أكبر، تحيا الجزائر! عجّ الحوش الكبير بالمعزّين...وعند عصر يوم العيد، كان للثّرى موعد مع سعدية وناصر الدّين في مربّع الشهداء .