تكمن جمالية المفارقة التي وظفها الطيب طهوري للتشكيك في هوية "أنا" (الطيب)، و "أنا" (أحمد محمد عز التاج)، و كأننا مع حالة مرضية نفسية تعاني من انفصام في الشخصيةفي مهارة القاص المحنك على خلق مسافة بين "الأنا" (الانسان)، و "الأنا" (الكاتب)، و "الأنا" القارئ المستمتع الأول بما تخطه يمناه. ل "الأنا" عالم يشبه "الحلم" (الكابوس)، فلا الضمير المتكلم (الذات الساردة و الشخصية الكارتونية) يدل على نفسه، و لا شخصيات مختلف القصص تشبه الشخصيات الواقعية، و لا الأمكنة ولا الأزمنة ولا الأحداث لها انعكاس في مرآة الواقع... و كأننا نقرأ مزيجا من قصص أفلام الرعب كما كتبها "إدغار بو"، أو قصص الأدب الغرائبي العبثي الذي يُميز كتابات "كافكا"، أو إحدى روايات الوجودية العبثية كما كتبها "ألبير كامي"... وقد استنتجنا من قراءتنا النقدية أن ضمير المتكلم "الأنا" على طول المجموعة القصصية بكل تمظهراته " ، يستضيفنا في عالم يشبه "الحلم" (الكابوس)، فلا الضمير المتكلم (الذات الساردة والشخصية الكارتونية) يدل على نفسه، و لا شخصيات مختلف القصص تشبه الشخصيات الواقعية، ولا الأمكنة و لا الأزمنة و لا الأحداث لها انعكاس في مرآة الواقع... و كأننا نقرأ مزيجا من قصص أفلام الرعب كما كتبها "إدغار بو"، أو قصص الأدب الغرائبي العبثي الذي يُميز كتابات "كافكا"، أو إحدى روايات الوجودية العبثية كما كتبها "ألبير كامي"... 1 الفانتاسطيك الخارجي: كتبت الباحثة نجاة تميم في دراسة لها تحت عنوان "الأدب العجائبي: أهو واقع أم خيال؟ (الحوار المتمدن عدد: 2992 بتاريخ 01/05/2010) في هذا السياق: "يعتبر ارنست هوفمان و إدغار بو من أهم الكتاب الذين كتبوا قصصا في الأدب العجائبي. لكن الفرق بين شخصيات كل منهما هو أن شخصيات إدغار بو هي " أموات بهذا العالم" حسب عبارة" وليام ولسن" (اسم بطل قصة بو ويحمل عنوانها)، أما شخصيات هوفمان فهي مخلوقات تجري دماء الحياة في عروقها." و يبدو أن الطيب طهوري نجح في استحضار الصنف الأول كما عند " إدغار بو"، و الثاني كما عند " هوفمان" معا في نفس القصة، قصة "الموتى يهاجرون أيضا" التي تناولت قضية الهجرة بصورة مجازية مزجت وصف البؤس و الهشاشة بأساليب السخرية من واقع مسكوت عنه تتجاوز غرابته ما قرأناه من قصص تنتمي للأدب العجائبي: حتى الموتى يريدون نقل قبورهم إلى مكان آخر... حتى الشباب تنكروا لوطنهم و فضلوا خلع ثيابهم و العمل عراة في مدينة أخرى تغريهم بالعمل و المتعة، نقرأ (و كأننا أمام مشهد أول من مسرحية بعض شخصياتها أموات): "كان الرعب يملأ قلوبنا و نحن نقف مشدوهين... كان الأطفال يشهقون و يغطون رؤوسهم بأحضاننا. وقفت الجثث فارعة الطول... تكلم أطولها: لقد أفسد أطفالكم اجتماعنا... قلت في سري: يجتمعون؟ !... لماذا يجتمعون؟ !استدارت عظام رأس جثة كانت في مؤخرة الجثث: اجتمعنا من أجل البحث في كيفية نقل قبورنا إلى مكان آخر..." لكن خلاف ما قرأناه من أدب غرائبي/ عجائبي سواء المنتمي للتراث العربي القديم (كتاب العظمة، ورسالة الغفران، و ألف ليلة و ليلة، و أزلية " سيف بن ذي يزن"...)، أو الذي أبدعه كتاب غربيون (قصص الأطفال المشهورة المستوحاة من التراث الدانماركي، و رواية "الخارج عن الرياح" لفرانز هلنس، و قصص لإيدغار بو مثل "موغلا" و"ليجيا"، وقصة "سارق البندق وملك الفئران"لارنستهوفمان، وقصة "المسخ" لكافكا، استطاع الطيب طهوري و بفنية عالية رسم ملامح شخصيات تتأرجح بين انتمائها للواقع (بشر مثلنا) ، وعالم الخوارق و الغرائب كما في قصة "ثلوج ونسور وذئاب" (ص. 79)، بتوظيف رمزية "النسور" و "الذئاب" كناية على المستبدين الذين ينهشون لحم الشعوب، و رغم هيمنة هذه العوالم العجائبية على الكثير من قصص المجموعة التي تحيل بشكل غير مباشر على عالم واقعي أغرب، فالكتابة الفنتاسطيكية عند الطيب طهوري ليس لها بُعد ديني ميتافيزيقي كما الفانتاسطيك الخارجي الأنجلو-سكسوني إذا استثنيا بعض القصص مثل "شبر الحفارين" (ص. 29)، وقصة "إنهم يذبحون البشر" (ص. 36)... الفانتاسطيك الخارجي عند الطيب طهوري استعارة كبرى لمجتمع يعيش في المتناقضات كما عالم سوريالي بشخصيات آدمية، لا هي ميتة و لا هي حية بسبب ما وصلت إليه من فقر وقمع و استغلال و تهميش... لكن الجمالية، كل الجمالية في مجموعة الطيب طهوري، تكمن أيضا في عدم إخضاع النصوص القصصية لنمطية الفانتاسطيك الخارجي، بل تميل الكتابة في قصص كثيرة للفانتاسطيك الداخلي. 2 الفانتاسطيك الداخلي: الفانتاستيك الداخلي، حسب فرانس هلنس، هو نتاج روح شعرية، هُنا الشخصية الرئيسة هو الكاتب نفسه، فشخصيته تتعدد، تتضاعف، تتحول، تمتزج مع المادة أو العنصر. فالأدب العجائبي شاعري في الأساس، و يكمن مصدر الإلهام في الخيال العاطفي الانفعالي ،. الشخصيات المبتكرة من قبل الكاتب في هذه الفئة هي ابتكارات وجدانية خالصة. فهذه الشخصيات هي الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة. فهو لم ينقل الواقع مع كل عناصره المرئية والطبيعية إلى مستوى فوق طبيعي، لكنه يجعل هذا الواقع يتحول، ويدمج مع الفوق طبيعي. و قد أشرنا إلى هذه الظاهرة في الجزء الأول من هذه القراءة النقدية في تضاعيف حديثنا عن تمظهرات "الأنا" (الساردة و الشخصية القصصية)... و لهذا، فللفانتاسطيك الداخلي صدى في أكثر من قصة من قصص المجموعة، أخص بالذكر على سبيل المثال لا الحصر، قصص مثل: "ركبتي و قطار المستشفى" (ص. 42)، و "الهرب" (ص. 94)، لكن الظاهرة جلية بوضوح أكبر في قصة "تلك الرسائل ما أروعها" (ص. 17. الكتابة الفانتاسطيكية/ العجائبية عند الطيب طهوري من خلال ما استنتجناه عبر قراءتنا لمجموعته القصصية هذه، سواء عبر تمظهراتها ك "فانتتسطيك خارجي"، أو ك "فانتاسطيكداخلي"بعيدة نوعا ما عن "نمطية" إدغار بو، و ارنست هوفمان، و أقرب بكثير من "أدب العبث" كما قرأناه عند فرانز كافكا، و ألبير كامي... وتمثِّلُ العبثية في الأدب حسب بعض الدارسين مَذهبًا يقوم بالتركيز على التجارب الإنسانية في ظروف لا يستطيع فيها الإنسان أن يجدَ هدفًا أصيلًا في حياته، وتتجسّد هذه الظروف بأفعال أو أحداث لا معنى لها أبدًا، وتلجأ العبثية إلى استخدام أسلوب الكوميديا السوداء والسخرية والاستهزاء بالمنطق والتناقض والجدل، ورغم أن بعضها يحمل روح الفكاهة إلا أنها غايتها دراسة سلوك الإنسان تحت الظروف التي تظهر كأنها دون هدف ومجرد عبثية فلسفية سواءً كانت الظروف واقعية أم خيالية، وكُتبت كثير من الروايات والقصص والقصائد بهذا الأسلوب، من أشهر ما كتب في مدرسة العبث: "المسخ" لكافكا، "الغريب" لألبير كامو، "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" للكاتب لويجيبيرانديلو..."و يظهر هذا التصور بشكل جلي في عدة قصص من المجموعة من بينها قصة "أحلام سعيدة" (ص. 66)، و قصة "الأبواب" (ص. 81)، و قصة "الحرية" (ص. 116)... و يبدو أن القاص الطيب طهوري ركّز عليه أكثر في قصة "في اتجاه المتاه" (ص. 113) .