رغم مرور ثمانية عقود عن المجازر التي اقترفها الاحتلال الفرنسي في 8 ماي 1945 بقالمة، فإن الذاكرة الجماعية بهذه المنطقة لا زالت تحتفظ بالصفحات المؤلمة لتلك المجازر التي تمت فيها الإعدامات والتصفيات الجسدية في حق جزائريين أبرياء. فلا يوجد حقل أو طريق أو ممر أو جسر أو واد أو كهف لم يكن مسرحا لمقتل أو مذبحة أو فظاعة وحشية مثل تلك العشرات من الجثث المحروقة بالجير الحي التي ألقيت في خنادق جماعية. وقد تزامن إحياء الذكرى ال 80 للمجازر بإصدار الباحث في التاريخ الأستاذ عبد الغني بوصنوبرة كتابا جديدا بعنوان "محمود رقي شاهد على مجازر 8 ماي 1945 بقالمة"، حيث ذكر الكاتب بأن هذا العمل يمثل ترجمة لمخطوط كتبه "محمود" سنة 1946 يجسد رحلة بحثه عن أسباب قتل الفرنسيين في تلك المجازر لثلاثة أفراد من عائلته وهم محمد الذي قتل رميا بالرصاص، في حين أن عبد الحفيظ وفاطمة الزهراء لم يتم العثور على جثتيهما إلى اليوم ويعتقد أنهما أحرقا في فرن الجير بهيليوبوليس. ويذكر شاهد العيان في مخطوطه ما وصفه ب"السوق السوداء للموت"، العديد من الشهادات وأسماء ضحايا تلك المجازر وما تعرضوا له من أشكال التعذيب والتنكيل والقتل التي قامت بها المليشيات الأوروبية، مدعومة بفرق البوليس والجندرمة الفرنسية. ومن بين الضحايا، الشهيدة فاطمة الزهراء رقي التي تبرز قصتها كواحدة من أكثر المشاهد تأثيرا في النفوس. وتم في يوم الخميس 17 ماي 1945 في حدود الساعة الحادية و30 دقيقة ليلا اقتياد الأخت فاطمة الزهراء والأخ عبد الحفيظ رفقة آخرين وسجنهم في مكان مجهول، مضيفا أنه عندما أراد الفرنسيون تغطية عيني فاطمة أثناء إخراجها من الزنزانة لإعدامها، قالت لهم بكل شموخ: "لا أريد أن تعصب عينياي، لست خائفة، أريد أن أثبت لكم أن المرأة الجزائرية تعرف كيف تموت. تحيا الجزائر". وتتقاطع العديد من القصص الواردة في هذا المخطوط مع الشهادات التي جمعتها "وأج" سابقا من شهود عيان قبل رحيلهم ومنهم المجاهد الساسي بن حملة المتوفى في يوليو2013، والذي كان من شباب الحركة الوطنية المشاركين في المسيرة السلمية في 8 ماي 1945 وهو أحد أكبر الناشطين في الدفاع عن حقوق ضحايا تلك المجازر وعضو مؤسس لجمعية "8 ماي 1945". كما تطرق الى الطريقة الوحشية التي أعدمت بها فاطمة الزهراء التي تم قطع أجزاء من جسدها ثم أحرقت رفقة مئات المواطنين الآخرين العزل بفرن الجير الذي كان تابعا للكولون "مرسال لافي" ببلدية هيليو بوليس. وتوجد أيضا العديد من الحقائق التي تظهر وحشية الاحتلال الفرنسي في تلك المجازر ومنها قصة السيد مومني الذي صلب وألصق جسمه بالحائط بواسطة مسامير كبيرة داخل قسم الدرك بقالمة حتى الموت وكذا الإعدام البشع للطفل كاتب إبراهيم، صاحب 12 سنة، وكذا أمه نفيسة التي كانت حاملا في شهرها السادس، ووالده محمد بالمكان المعروف "الجسر الصغير" ثم حرق العائلة بفرن الجير نفسه، حسب ما تضمنته شهادات موثقة. وتحتفظ الذاكرة الجماعية بالمنطقة كذلك بالكثير من صور القتل الجماعي التي أعلنها السفاح أندري أشياري خلال المسيرة السلمية مساء 8 ماي 1945، والتي كانت بدايتها بقتل الشاب بومعزة عبد الله المدعو "حامد" (19 سنة) لتتحول كل المدينة والمناطق المجاورة لها إلى ساحة لأبشع المجازر التي دامت لأكثر من شهرين. 11 موقعا للمجازر و18 ألف شهيد وتشير الوثائق التي بحوزة مكتب قالمة لجمعية 8 ماي 1945 التي تأسست خصيصا لمحاربة ثقافة النسيان تحت شعار "لكي لا ننسى"، إلى أن ولاية قالمة قدمت أكثر من 18 ألف شهيد في حصيلة تقريبية للمجازر التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي وبقيت سياسة القتل والتصفية متواصلة لأكثر من شهرين، وهي خلاصة كل الشهادات التي جمعها الناشطون في الجمعية. وتحصي ولاية قالمة 11 موقعا كان مسرحا لتلك المجازر لتصبح منقوشة في الذاكرة الجماعية لكل سكان الولاية، صغيرهم وكبيرهم، ومنها "فرن الجير" الذي كان يستعمل في حرق الحجارة وتحويلها إلى جير، لكنه حول إلى "محرقة بشرية" أحرقت فيه جثث عشرات الأبرياء العزل الذين قتلوا من طرف الجندرمة والبوليس والمليشيات الفرنسية و"كاف البومبة" الذي رميت فيه عشرات الجثث ودفنت جماعيا لعدم ترك أي أثر لتلك الإبادة الجماعية البشعة. ومن بين الأماكن التي لا تزال تذكر بتلك المجازر الرهيبة، "الجسر الصغير" ببلدية بلخير وضفاف وادي سيبوس ببلدية بومهرة أحمد والثكنات القديمة بوسط مدينة قالمة، حيث لا تزال بقايا المقصلة التي استخدمت لإعدام العديد من المشاركين في مسيرة 8 ماي 1945 السلمية، كلها أعمال شنيعة اقترفها ما يسمى ب"بلد حقوق الإنسان".