الجزء الرابع والعشرون يا أهل الإيمان هذا عدوكم فاحذروه فالخوف على أهل الإيمان المستمسكين بالمنهج القويم، من عباد الله المؤمنين، هو خوف من الانحراف بعد الاستقامة ومن اهتزاز الثقة بعد الثبات بأن الطريق المستقيم ليس هو الخط الواصل بين التوحيد والجنة، فإذا هدوا واستقاموا وثبتوا، وأعانهم الله على الاستمرار والطاعة فلا يخافون أن يخرجوا خروجا كاملا وواضحا وصريحا عن الصراط المستقيم والذهاب البيّن إلى صراط إبليس وسبيل الشياطين بإعلان العصيان التام المصرّ على مخالفة أوامر الله ونواهيه مخالفة صريحة رعناء متكبرة، كما فعل إبليس، إنما الخوف متأتٍّ من الانحرافات اليسيرة المؤدية إلى اتساع الإنفراج بين الضلع المستقيم لزاوية الحق وضلعها المائل عن الصراط المستقيم، الذي يزداد بعدًا أو انفراجًا كلما تم مدّه بين الحق والباطل إلى أن يصل بصاحبه إلى هاوية الضلال المبين، لذلك سألوا المولى تبارك وتعالى الحماية من شهوة الإنحراف عن الصراط المستقيم باتجاه التحلل من سلطان الحق إلى السلطة الزمنية التي تحلل ما حرم الله وتحرّم ما أحله ليشتروا به ثمنًا قليلا، وهو ما صنعته اليهود فكانوا بذلك من المغضوب عليهم لعلمهم بالحق ثم الإنصراف عنه إلى الباطل، فلعنهم الله بكفرهم وغضب عليهم ومسخ منهم فريقا فكان منهم القردة والخنازير " قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَ لِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَ ئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ" المائدة: 60 لذلك يسأل المؤمنون ربهم كل يوم عدة مرات أن يجنّبهم صراط المغضوب عليهم كما يسألون الله (جل جلاله) حمايتهم من ضغط الشبهات التي تربك الحق وتقذف في القلب ما يعكر صفو الإيمان، فيعتقد العبد أنه يعبد الله وأنه على الصراط المستقيم، وهو واقع في السوء بجهالة إلا إذا تاب وأصلح، عندئذ تستبين له سبيل المجرمين فيتلافاها إلى صراط الذين أنعم الله عليهم "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَ لِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ الأنعام: 54/55 . فمن ضلت به سبيل غير المؤمنين تاه في زحام الدنيا وابتعد شيئًا فشيئًا عن الصراط المستقيم، وضعفت صلته بالمنهج الإيماني وتولى غير سبيل المؤمنين فاحتاج إلى توبة وأوبة وبصيرة وبيان وإصلاح ليتدارك حاله مع الله، ويسارع الخطى إلى طريق الله المستقيم حنيفًا عن الذين غضب الله عليهم لشهوات السلطة الزمنية وعن الذين ضلوا عن الصراط المستقيم بسبب الشبهات العقدية التي شوهت استقامة الصراط إلى تعدد المسَارب، فخالطت عقيدة التوحيد الشركَ وتعثرت الخطى على صراط الله المستقيم إلى سبل الضالين، فمن تاب تاب الله عليه، لأن الله (جل جلاله) وعد بواسع رحمته وكريم عفوه عباده المؤمنين بالإستجابة كلما سألوه الهداية فقال لهم "هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل" لما روى مسلم وأحمد والترميذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة (رضي الله عنه) في الحديث القدسي المذكور آنفا "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال "الحمد لله رب العالمين، قال الله (عز وجل) "حمدني عبدي"، فإذا قال "الرحمن الرحيم"، قال الله (عزوجل) "مجدني عبدي"، فإذا قال "إياك نعيد وإياك نستعين"، قال الله (عز وجل) "هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"، وإذا قال "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، قال الله(عز وجل)" "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"، فصارت الفاتحة صلاة (أي قراءة) بين الله وعبده القائم بين يديه (سبحانه)، فيها حمد كامل لله، وثناء دائم عليه، وتمجيد له وحده لا شريك له، وسؤال هداية "ولعبدي ما سأل"، ثم تختم السورة بالتأمين على هذه المعاني كلها: آمين..آمين..آمين..سواء قرأها المؤمن فردًّا أو كانت قراءته إماما يصلي بالناس، أو مأمونا يصلي به غيره، فإن التأمين سنّة جرى بها التواتر حتى صارت جزءا غير مكتوب لهذه السورة في الرسم المصحفي ولكنه منطوق، لأن جبريل (ع) علمه لرسول الله(ص) والرسول لا يكتم شيئا من الوحي، وهو ما سوف يظهر في تفسير أوامر الله لرسوله بفعل الأمر "قل" المكرورة في نصوص هذا الكتاب أزيد من ثلاثمائة وثلاثين مرة، فمن قرأ الفاتحة أو سمع قراءتها قال: آمين، بمعنى اللهم استجب، بالتأمين على هذه الدعوات المباركة -التي هي من علم الله وتعليمه لأهل الإيمان- فإنه بتأمينه يفقه أن ربه (جل جلاله) يستحق أن يُحمد على ما علّمنا كيف ندعوه وأدّبنا بآداب الدخول عليه والتذلل ببن يديه وطلب الهداية منه إليه ثم التأمين على هذه النعم الربانية بالدعاء الفاتح لأبواب الخيرات والبركات "آمين"، ونمد بها الصوت..لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة (رضي الله عنه) إن رسول الله (ص) قال "إذا أمّن الإمام فأمنّوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". يتبع…