هجرة غير نظامية: مراد يشارك بروما في اجتماع رفيع المستوى يضم الجزائر، إيطاليا، تونس وليبيا    لعقاب : الانتهاء من إعداد النصوص التطبيقية المنظمة لقطاع الاتصال    أكثر من مليون ونصف مترشح لامتحاني شهادة البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط دورة يونيو 2024    الجزائر/موريتانيا : افتتاح الطبعة السادسة لمعرض المنتجات الجزائرية بنواكشوط بمشاركة 183 عارضا    الجزائر تؤكد من نيويورك أن الوقت قد حان لرفع الظلم التاريخي المسلط على الشعب الفلسطيني    لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي ويكشف: نحو تنظيم دورات تكوينية لصحفيي الأقسام الثقافية    "تحيا فلسطينا": كتاب جديد للتضامن مع الشعب الفلسطيني    سليمان حاشي : ابراز الجهود المبذولة لتسجيل عناصر ثقافية في قائمة الموروث الثقافي غير المادي باليونسكو    دراجات/الجائزة الكبرى لمدينة وهران 2024: الدراج أيوب صحيري يفوز بالمرحلة الأولى    وفاة 8 أشخاص تسمما بغاز أحادي أكسيد الكربون خلال شهر أبريل الماضي    وزير الصحة يشرف على افتتاح يوم علمي حول "تاريخ الطب الشرعي الجزائري"    قسنطينة..صالون دولي للسيارات والابتكار من 23 إلى 26 مايو    مجمع الحليب "جيبلي": توقيع اتفاقية اطار مع وكالة "عدل"    اجتماع الحكومة: الاستماع الى عرض حول إعادة تثمين معاشات ومنح التقاعد    الفنانة حسنة البشارية أيقونة موسيقى الديوان    التوقيع على برنامج عمل مشترك لسنة 2024-2025 بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة يوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    اليوم العالمي لحرية الصحافة: المشهد الإعلامي الوطني يواكب مسار بناء الجزائر الجديدة    معادن نادرة: نتائج البحث عن الليثيوم بتمنراست و إن قزام ايجابية    السيد عطاف يجري بكوبنهاغن لقاءات ثنائية مع عدد من نظرائه    معرض الجزائر الدولي ال55: نحو 300 مؤسسة سجلت عبر المنصة الرقمية الى غاية اليوم    حوادث المرور: وفاة 62 شخصا وإصابة 251 آخرين خلال أسبوع    رالي اكتشاف الجزائر- 2024 : مشاركة 35 سائقا اجنبيا وعدد معتبر من الجزائريين    اليوم العالمي لحرية الصحافة: الصحفيون الفلسطينيون قدموا مئات الشهداء وهزموا رواية الاحتلال الصهيوني الكاذبة    فلسطين: ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على غزة إلى 34 ألفا و 596 شهيدا    منظمة العمل العربية: العدوان الصهيوني دمر ما بناه عمال غزة على مر السنين    المصلحة الجهوية لمكافحة الجريمة المنظمة بقسنطينة: استرجاع أزيد من 543 مليار سنتيم من عائدات تبييض الأموال    في انتظار التألق مع سيدات الخضر في الكان: بوساحة أفضل لاعبة بالدوري السعودي الممتاز    رئيس الجمهورية يحظى بلقب "النقابي الأول"    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    بخصوص شكوى الفاف    تدعيم الولايات الجديدة بكل الإمكانيات    بداية موفّقة للعناصر الوطنية    العلاقات بين البلدين جيدة ونأمل في تطوير السياحة الدينية مع الجزائر    انبهار بجمال قسنطينة ورغبة في تطوير المبادلات    الجزائر في القلب ومشاركتنا لإبراز الموروث الثقافي الفلسطيني    اجتياح رفح سيكون مأساة تفوق الوصف    إطلاق أول عملية لاستزراع السمك هذا الأسبوع    تكوين 500 حامل مشروع بيئي في 2024    حملة وطنية للوقاية من أخطار موسم الاصطياف    البطولة الإفريقية موعد لقطع تأشيرات جديدة لأولمبياد باريس    المجلس الشّعبي الوطني يشارك في الاجتماع الموسّع    الجزائريون يواصلون مقاطعة المنتجات الممولة للكيان الصهيوني    أوغندا تُجري تجارب على ملعبها قبل استضافة "الخضر"    بولبينة يثني على السعي لاسترجاع تراثنا المادي المنهوب    دعم الإبداع السينمائي والتحفيز على التكوين    تتويج إسباني فلسطيني وإيطالي في الدورة الرابعة    روما يخطط لبيع عوار للإفلات من عقوبات "اليويفا"    دعوة للتبرع بملابس سليمة وصالحة للاستعمال    263 مليون دينار لدعم القطاع بالولاية    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    خنشلة: الوالي محيوت يشرف على إحياء اليوم العالمي للشغل    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صديقي مالك حداد مات متأزما بعجزه عن الكتابة باللغة العربية
نشر في الحوار يوم 15 - 03 - 2016


قال أدونيس: "ستيتييه يكتب العربية بلغة فرنسية"
حاوره في باريس: بوعلام رمضاني
لا يعد الشاعر صلاح ستيتييه، الذي دخل سن السابعة والثمانين في مطلع العام الجاري، مثقفا وأديبا عاديا بكل المعايير الممكنة. الرجل الذي نشر كتاب مذكراته مؤخرا في 625صفحة وقدمه في معهد العالم العربي في قاعة شاسعة لم تسع لمعجبيه من الجنسين، ليس شاعرا استثنائيا فحسب، بل هو مفكر ودبلوماسي وناقد ومترجم وباحث وفنان تشكيلي عاصر كبار الشعراء الفرنسيين وأثر فيهم بعد أن تأثر بمثله الأعلى مالارميه وبكبار الشعراء العرب القدامى الذين قدمهم للجمهور الفرنسي، الأمر الذي جعل منه مبدعا محلي وكوني الأوجه والمنابع والمشارب والأبعاد والخصوصية والمعنى.
في الحديث الذي أدلى به "الحوار" ببيته الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، والواقع في قرية تروبلي سير موردر الواقعة غرب باريس، تحدث ستيتييه بحنين لا يقبل الطعن عن طفولته وبدايات كتاباته، معرجا على مجمل العوامل التي اثرت في تكوينه فكريا وأدبيا، وموضحا مفهومه للشعر وللوجود بشكل عام، ومتوقفا عند المحطات التي ميزت ثراء حياته الأدبية والمهنية، ومن بينها محطة ترأسه القسم الثقافي لجريدة "لوريان لوجور" وإشرافه على الملحق الادبي الاسبوعي.
الحديث كان فرصة للكشف عن طبيعة علاقته باللغة الفرنسية التي ابدع بها على النحو الذي لم يتسبب في محو وإلغاء روحه العربية الإسلامية التي نشأ في كنفها، ولعل قول الشاعر الكبير الآخر أدونيس صديقه ورفيق دربه في باريس: "ستيتييه يكتب العربية بلغة فرنسية" مقولة يمكن أن تصلح تعريفا شاملا ومانعا لشخصية مثيرة ومدهشة على أكثر من صعيد، كما يتبين ذلك في نص هذه المقابلة التي كرم فيها الشاعر الكبير الراحل مالك حداد الذي عرفه وشهد على تأزمه بسبب عجزه عن الكتابة باللغة العربية، على حد تعبيره .
* كيف أصبح صلاح ستيتييه شاعرا، وهل يمكننا تصور علاقة مباشرة بالبيئة العائلية التي ترعرع في كنفها؟
أصبحت شاعرا لأنني ولدت في بيت شعري كان يمثله والدي محمود الذي كان شاعرا وكاتبا كبيرا باللغة العربية، وأمي التي كانت مثقفة وعاشقة للشعر والرواية، وكان بيتنا في بيروت قبلة العديد من الشعراء الكبار من أمثال العراقي أحمد الصافي النجفي وخليل مطران وبولس سلامة الذي كان صديقا لوالدي.
لقد عشت طفلا على إيقاع الشعر الذي كان يلقى في بيتنا بشكل دوري ومنتظم ومع مرور الأعوام، ورغم صغر سني تركت اللغة العريبة التي كنت استمع إليها تأثيرها في نفسي إلى درجة دفعتني إلى أن أتساءل عن سر هذه اللغة التي بدت لي سحرية يمكن استعمالها استعمالا اوليا عاديا، وثانيا مختلفا تماما مثل القمر المطل على ما تحت القمر وهو الوجه المضئ والوجه المظلم والغامض المطل على الجانب الاخر من الكون.
* لماذا فضلتم الفرنسية كلغة دراسة وإبداع لاحقا رغم أنكم نشأتم في بيت أدبي كان يقرأ ويلقى فيه الشعر باللغة العربية؟
شعور والدي بعدم الاستفادة من اللغة التركية بعد انسحاب العثمانيين ومجئ الإنتداب الفرنسي وجهله لغة المحتل الجديد دفعاه إلى تعليمي اللغة الفرنسية فأدخلني وأنا في الثالثة من عمري المعهد البروتسنتي. وتعمق حرص والدي على تعلمي اللغة الفرنسية بتشجيعي على قراءتي كتب الأطفال، وخاصة كتب الأشرطة المرسومة التي كانت تطبع بشكل انيق وجذاب يستهوي الأطفال، وتعززت علاقتي باللغة الفرنسية مبكرا بعد تحولي إلى قارئ نهم وشاعر في سن السابعة وبقيت محبا للشعر، حينما أصبحت شابا يلعب كرة القدم خلافا لزملاء كثر، وأتذكر ان والدي كان في غاية السعادة يوم اطلاعه على محاولاتي الأولى التي وصفتها معلمتي "بالميرليتو" وهي الكلمة التي اكتشفت أنها تعني صف كلمات في قاموس لاروس الذي أهداني إياه والدي بمناسبة نجاحي في امتحان الشهادة الابتدائية.
وحتى لا يستغرب القارئ موقف والدي الذي كان مثقفا وشاعرا باللغة العربية، اضيف قائلا إنه خضع عند توجيهي نحو اللغة الفرنسية إلى حاجة نفسية يفسرها التعويض من خلالي على عدم تعلمه هذه اللغة التي أصبحت مهيمنة بفعل عدم اهتمام المدارس يومها باللغة العربية ورواج الكتب المنشورة باللغة الفرنسية.
وتعززت علاقتي باللغة الفرنسية بوجه عام، وبالشعر الفرنسي بوجه خاص، بشكل أكاديمي قوي حينما أصبحت أدرس في المدرسة العليا للآداب ببيروت على يد العالم الكبير غابريال بونور الذي عمل في مصر بعد طرده من لبنان بسبب موقفه المناهض للاعتداء الفرنسي على المدينة التونسية بنزرت، ثم في المغرب التي أنهى فيها حياته، ومن بين الكتاب المغاربة المعروفين الذين كانوا من بين طلبته اذكر الطاهر بن جلون وخيرالدين وغيرهم.
* ما هي الظروف والمحطات التعليمية والمهنية التي ساهمت في تكوين شخصيتكم، وخاصة تلك التي ميزت تواجدكم في باريس؟
تمثلت المحطة الأولى في دراستي كل مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي باللغة الفرنسية في لبنان، والثانية في مراحل تخصصي لمدة سبعة أعوام في السوربون، وفي معهد الدراسات العليا على يد المفكر الكبير المستشرق لوي ماسينيون، وفي معهد تاريخ الفنون التابع لمتحف اللوفر.
وكانت المرحلة الثالثة مهنية بحتة بعد أن عدت إلى لبنان لأشرف لمدة خمسة أعوام على القسم الثقافي لجريدة "لوريو لوجور" التي مكنت القراء من الاطلاع على الأدبين العربي والغربي من خلال الملحق الأدبي الأسبوعي، وتعمقت تجربتي مع العمل الثقافي مرة ثانية في المرحلة الرابعة التي أعادتني إلى باريس في مطلع الستينيات، ولكن كمستشار ثقافي لبلادي، في فترة أولى لمدة خمسة أعوام، وفي فترة ثانية كمندوب في اليونيسكو.
خلال المدة التي قضيتها في باريس كدارس وكيبلوماسي، والتي تجاوزت الثلاثين سنة، تمكنت بحكم إتقاني اللغة الفرنسية من ربط علاقات كثيرة وقوية في الأوساط الفكرية والأدبية والإعلامية والفنية، وأصبحت ناقدا للأدب الفرنسي بوجه عام، والجديد بوجه خاص، وساهمت في تأسيس مجلة لي ليتر نوفيل (الآداب الجديدة ) ومن الشعراء الكبار الذين اشتهروا لاحقا وكانوا أصدقائي في مرحلة الشباب، أذكر إيف بونوفوا وأندريه بوشيه وجاك دوبان واخرين كثر.
أما عن شروعي في كتابة الشعر، فلا يمكن ان اعتبر محاولاتي الأولى وأنا طفل في المدرسة تاريخا حقيقيا لذلك رغم انني أؤمن أن سر الشعر يكمن في الطفولة، ولنا في أمثلة الشعراء جيرار دو نرفال وشارل بودلير وارتور رامبو ثلاثة نماذج لشعر خرج من رحم الطفولة.
خلال المراحل المذكورة لم اكتب الشعر، واقتصرت على النثر، وانصب اهتمامي على العمل الثقافي والنقد الادبي، ويمكن لي أن اؤرخ لانطلاقتي الشعرية الحقيقية بعد تعرفي على الشاعر والمسرحي الكبير جورج شحادة.
إلى أي حد أثر المسرحي والشاعر الكبير الراحل جورج شحادة التي ربطتكم به علاقة صداقة كبيرة فيكم، وكيف؟
ربطتني بجورج شحادة علاقة شعر وصداقة دامت ثلاثين عاما، رغم فارق السن الذي كان يفصلنا، وتأثر جورج مثلي بالعالم الكبير غابرييل بونور، وخلافا لما توحون به في سؤالكم، فجورج لم يؤثر في توجهي الشعري اللاحق رغم محاولاته المتكررة، وأعترف في الأخير بملكتي وببصمتي الناتجتين عن تصورين ثقافيين مختلفين للشعر وللفكر.
جورج كان يمينيا وضد الفلسطينيين الذين كان يعتقد أنهم سبب خراب لبنان، كما أن عالمه الشعري قائم على الشرق البيزنطي والصبغة المسيحية الارذوكسية ونبرته الشعرية نبرة إنجيلية، اما نبرتي فهي عربية إسلامية وصوفية قريبة من جلال الدين الرومي ومتصوفين آخرين.
لكن يمكن أن نستنتج أن المقاربة روحية في الحالتين، وربما من هنا جاءت فكرة التأثر رغم اختلاف المصدر الروحي؟
الجوهر روحي، لكن اللغة عندي مختلفة، وكتبت عنه أقول "إن الهم المسرحي عند شحادة هو نفسه في شعره" وكما اسلفت الذكر أن عالمي الشعري لم يمت بصلة لشعره رغم محاولة تاثيره علي وبقي الاحترام يجمعنا حتى وفاته في ظل اختلاف مقاربتنا الإبداعية وقناعاتنا الفكرية، وحدث أن سخن النقاش بيننا، لكن لم يصل إلى درجة الخصومة.
* أدونيس صديقك المبدع الآخر كتب يقول عنك في مقدمة ديوانك "الوجود الدمية": "ستيتييه يكتب الفرنسية بلغة عربية" هل الصيغة ترضيكم لتأكيد ردكم على من يقارنون ستيتييه بشحادة؟
صيغة تؤكد الفرق بيننا، رغم أنه كتب باللغة الفرنسية مثلي، وخلافا لشحادة أنا رحت ابحث عن جذوري العربية الإسلامية في باريس سعيا وراء ما اسميه بالوحدة الذاتية المرتبطة حتما بتاريخ الإنسان وبظروف طفولته وثقافة عائلته، وأبي الذي سلمني للمدارس الفرنسية لم يكن مذنبا وحده، وكما ذكرت فإن أمام تهميش اللغة العربية في لبنان أيام طفولتي وميلي المبكر للقراءة لم اجد غير خيار المطالعة باللغة الفرنسية بشكل غير معقول، وطفولتي ارتبطت تاريخيا كما تعلمون بفترة الانتداب الفرنسي الذي فرض لغته بعد أن سادت اللغة التركية أيام والدي، وعليه يمكن القول إن ابي واكب موقف معظم المثقفين اللبنانيين الذين كانوا يعتقدون أن السيطرة على لغة ثانية تمكن من التحاور مع العالم الجديدر وهذا لم يمنع من بقاء اللغة العربية في أوساط العائلات الإسلامية بصفتها لغة الدين والتراث وباختصار اللغة الأم.
أنت كصحفي جزائري يكتب باللغة العربية، ويعيش في باريس، ويستعمل اللغة الفرنسية بحكم عمله وتواجده، يعرف أن اللغة ليست محايدة، وتلعب دورا في تكوين رِؤيته للكون، وحتى في عقله الباطن، وكما يبدو فإن خلفيتك الثقافية التاريخية ببعدها اللغوي الأول واضحة في توجهك المنفتح على اللغات الأخرى والثقافات الأجنبية. شحادة كان يتحدث اللغة العربية بصعوبة، أنا أتحدث بها كما ترون، وألفت كتبا بها إلى جانب الفرنسية، وخلفيته الثقافية مسيحية كما اسلفت الذكر.
* ما دمتم تتحدثون عن علاقة اللغة بشخصية الإنسان الفكرية، كيف يمكن لكم التحدث عن الشاعر الجزائري الكبير مالك حداد صاحب مقولة "لغتي منفاي" من منظور التأزم الذي طاله بسبب اعتقاده أنه كان عليه الكتابة باللغة الأم تجسيدا لشخصية وطنه بعد الاستقلال، وهل يحرجكم الأمر ما دمتم انتهيتم كاتبا باللغة الفرنسية رغم أن شعركم ينضح بروح عربية إسلامية لكن إنسانية وكونية وحضارية شاملة أيضا؟
أنت عبرت جيدا عن ردي المنتظر، ولا أعتقد ان هناك تناقضا بين موقفي واستمراري في الكتابة باللغة الفرنسية وانتمائي العربي الإسلامي، وقبل ان اقف عند الراحل صديقي مالك حداد، من واجبي ان أوضح لقراء جريدتكم أنني عانيت مثل مالك من التمزق، ولا استطيع القول انني تخلصت منه رغم تقدمي في السن، رغم شهرتي كشاعر لبناني يكتب باللغة الفرنسية.
إن شعوري بالعيش دون وحدة ثقافية، كما اسلفت الذكر، هو الذي دفعني وأنا في فرنسا انهل من الشعر الفرنسي إلى أن أدرك أنه يتوجب علي العودة إلى اللغة الأم بالدراسة وما تحمله من قيم ومعان، وقد تحقق لي شيء من ذلك، الأمر الذي حال دون وقوعي في تأزم يؤدي إلى ضياع الارتباطات الوجدانية والثقافية للإنسان، والاستعمار هو الذي يقف وراء الواقع الثقافي الانشقاقي، لكن على المثقف ان يفرق بين ما هو إنساني في الثقافات الأجنبية، وما هو غير كذلك، حتى لا ينغلق على العالم باسم المبرر الاستعماري، وأنا شخصيا لم انصهر في الثقافة الفرنسية رغم المدة الطويلة التي عشتها في باريس، وأدعي أنني طوعت اللغة الفرنسية لخدمة انتمائي الحضاري العربي الإسلامي، وكل من درس شعري يدرك ذلك، إلى جانب معانقتي جوهر قيم الإنسان في الإبداع الفرنسي والعالمي بوجه عام، خلافا لكثير من الكتاب اللبنانيين الذين التزموا كليا بلغة الآخرين، وهؤلاء تعرفهم أنت أيضا كجزائري، والمعروف أن عددا كبيرا من المثقفين في بلدان المغرب والمشرق، وخاصة في لبنان، ارتبطوا باللغة الفرنسية اكثر مما ارتبطوا بأعماقها وهؤلاء يسمون في علم الاجتماع "المتثقفون" les acculturés.
* وماذا عن علاقة الإشكالية بمالك حداد الذي قلتم إنه زاركم أثناء الثورة التحريرية في كتابكم "ليل المعنى" الذي نشرتموه في شكل حوار مع الصحفي جواد صيداوي، وهو الكتاب الذي اكتشفت أنه يحوي مواقفكم العامة من الشعر واللغة والثقافة، والدليل تكراركم لنفس الإجابات تقريبا؟
هذا صحيح، لأن الإجابات عن قضايا معينة هي قناعات ثابتة راسخة. أعود إلى سؤالك فأقول ان حداد قال لي إنه سيجد نفسه في أزمة بعد تحرر الجزائر، وأن سلاح لغة المستعمر الفرنسي سيفقد معناه بعد الاستقلال، وهذا ما حدث عنده حينما قرر التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية، وربما ذلك ما أدى إلى موته متأثرا بأزمة لم يتمكن من تجاوزها، علما أنه لم يكن يكره اللغة الفرنسية، ولو كان الأمر كذلك لما ابدع بها كشاعر كبير.
* أفهم أنكم تجاوزت أزمتكم اللغوية خلافا لحداد، لأن السياق التاريخي لم يكن واحدا، وكذلك الظروف والنفسية، فهل فرضيتي معقولة؟
هذه المسألة معقدة وتخضع لعدة اعتبارات تاريخية وفكرية وتاريخية وبيئية، وكاتب ياسين مثلا قال عن اللغة الفرنسية بأنها غنيمة حرب، وهي الحرب التي أدت إلى تأزم حداد بعد أن وضعت اوزارها، وياسين كتب ضد الاستعمار بلغته، ويبدو أن اللغة عند حداد مرتبطة بتحرر الوطن، وعدم تمكنه من الكتابة بها يعني أنه بقي متخلفا عن شعبه.
إن وضع حداد كان مختلفا في تقديري، لأنه كان يحب اللغة العربية، وعجز عن الكتابة بها في ظروف قاهرة، وكان بامكانه أن يستمر في الكتابة باللغة الفرنسية لولا خشيته، ربما أن ذلك يعني خيانة المليون شهيد الذين سقطوا من أجل استقلال الجزائر، ولموقفه هذا أكثر من دلالة على الأصعدة الروحية والسياسية والأخلاقية.
أما عن علاقتي بالأزمة، فكما قلت أنا لم انقطع روحيا وثقافيا بالثقافة العربية تاريخا وتراثا وأدبا، ونهلت منها كممثل للبنان في اليونسكو، وكباحث في الأدب، وكناقد، وكسفير في المغرب وهولندا للبنان، وكمسؤول عن الملحق الثقافي لصحيفة "لوريو لوجور" ثم أنني تتلمذت على يدي لوي ماسينيون وجاك بيرك في باريس، وأدونيس احد اقرب الأصدقاء لي حتى اليوم، وتعلقت بالمتصوفة وبالشعر الجاهلي والمعاصر العربيين.
ويمكن القول في المحصلة إن ثقافتي مزدوجة اللغة أدبيا لكنها عربية وإسلامية روحيا، وهذا الأمر لم يرد عند المرحوم الكبير مالك حداد، كما أنني لم أعش محنة اللغة في علاقتها بظرف تاريخي حساس ودقيق كالذي عرفته الجزائر، لا سيما أن الاستعمار الفرنسي عمل بشكل غير مسبوق على محو الهوية العربية للجزائر.
* ألا يحز في قلبكم أن اللغة الفرنسية حالت دون اطلاع العرب بالقدر الكافي على شعركم الذي أدهش الأجانب والفرنسيين، أم أنكم تقولون إن اسمكم العربي المرادف لتاريخ عربي وإسلامي كبير يكفي للقول إنكم كنتم سفيرا له بالمعنيين الأدبي والفكري والدبلوماسي؟
هذا صحيح، والأصح أيضا هو ان شعري ترجم إلى اللغة العربية في لبنان، لكن إقامتي في فرنسا مطولا وتخصصي في النقد والكتابة الشعرية بالفرنسية للظروف التي ذكرتها، حالت دون تواصلي مع جمهور عربي كبير، لكن يبقى عزائي كامنا في نطق شعري بنبرة عربية إسلامية بمفهومها الحضاري الشامل.
* أفهم أنكم لا تنكرون مثل معظم الكتاب العرب الفرنكفونيين علاقة اللغة بالفكر دفاعهم عن الفرنسية بشكل يحط من شأن اللغة الأم كما يفعل بوعلام صنصال؟
اللغة هي حاملة العالم، وليس العكس، وليست امتدادا جغرافيا وتاريخيا فحسب، هي امتدادنا الذاتي والأخلاقي والروحاني والفلسفي والوجودي، وبين الإنسان والمبنى، وأعني بذلك الحضارة المنبثقة عن اللغة.
أنا عشت ظروفا أبعدتني عن اللغة العربية بكل ابعادها، ولأن طفولتي كانت مرتبطة بها، ولأن جوهر شعري مرتبط بها، عدت إليها في باريس لاهثا وراء كل قيمها ومعانيها، وكما تعرفون فإن الأب عبو لم يكن يؤمن بدور اللغة العربية في تكوين قيم الشعب اللبناني، وأنا ككاتب عربي مسلم يبدع اللغة الفرنسية أؤكد أن ليس هناك من ارتباط بريء باستعمال اللغة.
ولأن القضية معقدة، اظن ان مثال ناظم حكمت، صديقي الراحل الاخر، يجسد موقفا مناقضا ومؤيدا لحداد، والمعروف عنه أنه عاش أزمة لغوية على طريقته بعد أن نفي من تركيا إلى لبنان وإقامته مطولا في روسيا، وأتذكر انه قال في بيتي ببيروت "أنا متألم لأن كتبي تصدر مترجمة بالروسية من التركية قبل صدروها بلغتي الاصلية" وفي هذه الحالة كان الشاعر التركي الشهير منفيا داخليا، وليس لغويا مثل حداد الجزائري الذي لم يكتب في حياته باللغة العربية.
الشعر لغة إنسانية يمكن التعبير عنها بعدة ألسن، ولكن يجب ان لا ننسى ان الشعر ككل شيء في الإنسان مقيد بالبيئة.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.