مراصد إعداد: جمال بوزيان اللغة المعقدة قيد في طريق المعرفة.. تيسير المعاني باختيار الألفاظ ليس إهانة لها بل وفاء لجوهرها تَرصُدُ أخبار اليوم كتابات أهل القلم وقراءات النقاد لها بأكثر من أداة وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وللمبدعين والقراءات عموما هي إظهار ما خفي من الجَمال اللفظي والمعنوي في التعابير شعرا ونثرا لفتح شهية القراء وليس لفرض أي تفسير أو تأويل من النقاد على زملائهم النقاد أو الكُتاب أو القراء. ///// حين تتعثر الفكرة بثوب اللغة.. عن وهم التعقيد اللفظي في الخطاب الثقافي والأكاديمي أ.سعاد عكوشي أذكر أيام الجامعة -وقد كان ذلك من المضحكات المبكيات- عند ما كنت أستمع للأساتذة المحاضرين وهم يحللون قصيدة بنيوية أو رواية رمزية فأصاب بالذهول من هول وقع الكلمات على فهمي البسيط وأتهم نفسي بقصور الفهم لدي وقلة الاطلاع فأصاب بخيبة كبيرة وأتهم نفسي بالجهل المركب وأقبل على الكتب التهمها التهاما محاولة مني التسامي إلى مستواهم حينذاك أدركت أني لست عصية على التعقيد اللفظي الممنهج الذي كان يتبعه بعض الأساتذة حيث تختبئ الفكرة لديهم خلف متاهات من المصطلحات الغامضة والمفردات المتضخمة فتضيع الفكرة في الطريق ويغدو الخطاب أداة للتمويه بدلا من أن يكون وسيلة للفهم. لكني أدركت مع طول الاطلاع والتجارب أن اللغة ما هي إلا وعاءً للفكرة خادمة لها وليست سيدة عليها فحين تنقلب الأدوار ويصبح التعبير غاية في ذاته لا وسيلة للإفهام يتحول المتحدث أو الكاتب إلى لاعب بهلواني يستعرض عضلاته اللفظية على جمهور يبحث عن المعنى لا الإبهار. نرى ذلك جليًا في كثير من المقالات والمحاضرات والخطب وحتى المداخلات الإعلامية كلمات من طراز: الأنطولوجيا الديالكتيك التراتبية الابستمولوجية البنية الفوقية ... تُسقَط على المتابع إسقاطًا دون توضيح وكأن المطلوب منه أن يندهش لا أن يفهم. إذا بحثنا عن السبب الذي يدفع بعض المثقفين استخدام هذا القناع اللغوي نقف على عدة أسباب أهمها: * استعراض معرفي: يظن البعض أن غموض عباراته يعكس عمق فكره وأنه كلما تعقدت اللغة علت درجته في سلّم الثقافة. * التمييز النخبوي: يخلق هذا التعقيد حجابًا بين النخبة والجمهور وكأن المثقف يحتمي بمعجم غريب كي لا يُزاحَم في منصبه. * نسخ تلقائي للخطاب الأكاديمي: بعضهم يتأثر بالنصوص الفلسفية أو الجامعية دون أن يعي أن خطاب الجامعة لا يصلح دائمًا في الصحافة أو الفضاء العام. * الخوف من البساطة: إذ يتم الخلط أحيانًا بين البساطة والسطحية مع أن البساطة الحقيقية تحتاج إلى عمق ومعرفة وتواضع. إن الفكرة العظيمة لا تحتاج إلى تزيينات لفظية لتلمع إنما تحتاج إلى صدق في الطرح ووضوح في البناء واحترام لعقل المتلقي.. كما أن الغرض من أي خطاب هو التأثير لا التفاخر.. والمثقف الحقيقي لا يهرب إلى لغة عليا كي يحمي فكرته بل ينزل بها إلى أرض الناس كي تثمر وتتجذر. فما الفائدة من قول: التمفصل بين الذاتي والجمعي في الخطاب المعرفي العربي ما هو إلا انعكاس لتشظي المرجعيات وتصدّع الهوية الثقافية في سياق الهيمنة الكولونيالية المعاد إنتاجها . في حين يمكنك القول بوضوح: الصراع بين الفرد والمجتمع في فكرنا العربي يعكس فقداننا المرجعيات نتيجة التأثير المستمر للاستدمار الثقافي بشكل جديد . وهذا نموذج معقد (بنبرة ساخرة من الظاهرة): إن التواشج الاصطلاحي في متون النخبة يتعقد تعقيدًا مفهوميًا يرتهن بعتبات التأويل فلا يفضي إلا إلى مراوحات ذهنية عائمة . في حين يمكننا التيسير فنقول: بعض المثقفين يتعمّدون استعمال كلمات معقدة تُربك القارئ ولا توصل أي معنى واضح . هذه النماذج ليست رفضًا للغة العميقة بل دعوة إلى التوازن بين العمق والوضوح.. المثقف الذي يُحسن التعبير عن الفكرة بلغة يفهمها الجميع هو المثقف الرسالي لا الاستعراضي. ولمعالجة هذه الظاهرة علينا: إعادة الاعتبار للوضوح كقيمة ثقافية: استخدام المصطلحات لكن بشرط أن تُشرح وتُستخدم لحاجة لا لمجرد الزينة. تدريب النخبة على مهارات التواصل: في الجامعات المنتديات وسائل الإعلام. تشجيع النماذج التي تجمع بين العمق والوضوح: ككتابات عبد الوهاب المسيري ومالك بن نبي. نقد الخطاب المعقد دون ازدراء لأصحابه: من منطلق حرص وصول الكلمة إلى من تستحق. الخلاصة: اللغة المعقدة حين لا تكون ضرورة فإنها تصير قيدًا.. فلتكن كلماتنا جسورًا لا متاهات.. ولنتذكر دائمًا: تيسير المعنى ليس إهانة له بل وفاء لجوهره. ///// للشاعرة الجزائرية خديجة بن عادل قراءة بقلم الناقد العراقي أ.إسماعيل آل رجب لمقطوعة في حضرتك النص: في حضرتك للشاعرة خديجة بن عادل أجيءُ إليكَ لا كالساجدِ المعتادِ في صلواتِهِ بل كالمُتيَّمِ حين ينسى أنه جسدٌ ويذوبُ في أنفاسِ مَن يهوى.. ولا يدري! أتيتُكَ لا لأسألكَ النجاة فكُلّ ما دونَ الفناءِ بكَ غُربةْ أتيتُكَ واليدُ العزلاءُ ترتجفُ فلا وردٌ ولا ماءٌ ولا ذنبٌ أُقدّمهُ.. سوى شوق تكسَّرَ في دمي وصارَ صوتًا يشبهُ الذكرى القديمةَ في جبينِ الطينِ حين تكلَّمَتْ يدُكَ. أيا سرًّا يمرُّ بكُلّ خلجةِ نبضتي ولا يُرى.. لِمَ كلّما حاولتُ نُطقَكَ ذابَ صوتي؟ أيا مَن في جلالِ الصمتِ تسكنُني وتُربكني وتجمعُني كما النجمُ المعلّقُ في المدى يُضيءُ وهوَ لا يعرفُ لِماذا يُضيء. القراءة: المقدمة: ما بين العشق الإلهي والحضور الصوفي تتهادى هذه المقطوعة الشعرية الرقيقة التي كتبتها الشاعرة خديجة بن عادل وهي تنتمي بامتياز لشعر الحال ذلك الشعر الذي لا يُكتب من خارج التجربة بل يتشكّل من فيض وجدانيّ روحيّ يتلبّس صاحبه كما عند الحلاج ورابعة العدوية وابن الفارض والسهروردي وغيرهم من رموز التصوّف الإسلامي. العنوان يحمل عنوان المقطوعة بُعدًا صوفيًّا مباشِرًا ف الحضرة في التراث الصوفي لا تعني فقط التواجد المكاني بل تدل على الانكشاف الوجودي أمام المحبوب الإلهي حيث لا يبقى شيء سوى الوعي بالحضور وهو ما يقود إلى الفناء. 2- تأملات في المعاني والمضامين: أ.العشق الروحي لا الجسدي: أجيءُ إليكَ / لا كالساجدِ المعتادِ في صلواتِهِ / بل كالمُتيَّمِ / حين ينسى أنه جسدٌ . الشاعرة هنا تنقض الطقوسية الشكلية وتستبدلها بعبادة الحال أي عبادة الهيام والحضور لا الركوع والسجود الشكلاني. وهي تضعنا في مواجهة الفرق بين الظاهر والجوهر في العلاقة مع الله. ولا يدري! تُضيف هذه الكلمة زخمًا دراميًا داخليًا إذ تصف حال العاشق الذي يتخطى وعيه فيصير حاله عجزًا عن الإدراك – وهذا قريب جدًا من فكرة السكر الصوفي. ب.الفناء لا الرجاء: أتيتُكَ لا لأسألكَ النجاة / فكُلّ ما دونَ الفناءِ بكَ / غُربةْ . هنا تتضح ملامح الفناء الصوفي كما عند الحلاج وابن عربي ولكن الشاعرة لا تنزلق إلى مفاهيم الحلول أو الاتحاد الصريحة بل تعبّر عن الفناء ك حب متجاوز لا كعقيدة. والفرق بين الفناء الروحي والحلول العقدي جوهري جدًا في فهم الصوفية. ت.العجز عن الاقتراب: ولا ذنبٌ أُقدّمهُ.. / سوى شوق / تكسَّرَ في دمي . في هذه اللحظة يكون الشوق هو الزاد الوحيد لا ماء ولا زهر ولا كفارة. وهذا يذكّرنا بما قاله الحلاج: أنا من أهوى ومن أهوى أنا / نحن روحانِ حللنا بدنا لكن الشاعرة تُجنّب نفسها هذا المنزلق اللاهوتي الخطِر فلا تذهب إلى وحدة الوجود الصريحة بل تبقي الشوق في دائرة الرمز القابل للتأويل الإيماني البريء. ث.إيحاءات الاستعارات الكونية: كما النجمُ المعلّقُ في المدى / يُضيءُ وهوَ لا يعرفُ لِماذا يُضيء . هذه النهاية تشبه شعر النفري حيث الجهل بالسبب هو عين العرفان. النجم يضيء لأنه كذلك والإنسان يعشق لأنه مخلوق للحب – وهو بذلك يحمل نورًا لا يختار إشعاله بل ينفعل به. أسلوب المقطوعة الشعرية: أ.اللغة: اللغة طافحة بالرقة والشفافية والهمس الداخلي ولا تستعمل لغة الخطابة أو الوعظ مما يجعل النص قريبًا من شعر المتصوفة حيث الإيماءة أهم من التصريح. ب.الإيقاع الداخلي: رغم غياب الوزن الخليلي إلا أن الموسيقى تنبع من تكرار الصور والانفعالات وتوظيف الحروف الرخوة كالسين والهاء ما يضفي جوًا وجدانيًا رقيقًا. ت.بين الحلاج وخديجة بن عادل: الحلاج قال: أنا الحق . بينما الشاعرة تقول: أيا من في جلال الصمتِ تسكنني وتربكني وتجمعني.. . الحلاج أعلن التوحد فأُدين أما الشاعرة فهمست بالشوق فنجَت من اتهام الزندقة. ومع ذلك فإن القارئ المطلع قد يرى في النص استدعاءً شفيفًا لروح الحلاج دون الوقوع في دائرته اللاهوتية. الرأي النهائي: هذه المقطوعة هي تراتيل وجدانية تسبح في الملكوت دون أن تُحلّق خارج مدار العبودية. هي ليست قولًا فلسفيًا عن الاتحاد بل صرخة حب صاف أقرب إلى دمع سال من قلب لا يطلب إلا أن يذوب كما يذوب الملح في البحر.. مقطوعة في حضرتك ليست فقط عن الله.. بل عن الذوبان في سرّه. عن صلاة بلا لسان وشوق بلا ذنب وضياء لا يعرف لِمَ يُضيء. ///// عبق نانا قصة للكاتبة صباح حمور - الجزائر في ملامحي الكثير من ملامحها لون عينيّ شكل أنفي استدارة عيني نعومة صوتي وكأنها كما يقولون دائما: عطستني من أنفها ... تتغزل نانا بجمالي كعاشق متيّم رغم البياض الذي يحجب بؤبؤ عينيها قبل مجيئي بسنوات طويلة تتحسس بأناملها الدافئة الرفيعة تفاصيل وجهي الصغير وجسدي ثم تستنشق مني ما بين رأسي والكتف وتخفيني في صدرها... ما أطيب رائحة الجدّات مزيج من رائحة العرق الطيّب وعطر أعواد القرنفل النائمة تحت وسادتها وصابون مايا الفاخر... حين أسكن حضنها ينبت لي جناحان تأخذني الجنة من الأرض أشرب من الكوثر حتى أرتوي أغفو قليلا عاليا هناك ثم أسقط فجأة من السماء على رأسي فوق بلاط الغرفة على صياح أمي... أيتها الغبية المجنونة ماذا تفعلين عند العمياء هناك هناك الكثير مما يجب فعله... تعاني نانا دائما الأرق ورغبة في الحديث مع أحدهم ليلا وتصيبني عدوى الأرق عادة مثلها فأتسلّل على أطراف أصابعي خفية من أمي في منتصف اللّيل إلى فراشها لأرتوي من حكاياها ككل ليلة بقرة اليتامى و نجمة خضار ووو... بالشوق والشغف نفسيهما أنتظر كلّ ليلة في لقائنا السّرّيّ ذاك حكايا نانا القديمة نفسها وأتمنى كلّ مرة أن تتغير الأحداث مثلا أو أن تخون الذاكرة نانا وتحول زوجة الأب من امرأة شريرة إلى طيّبة أو على الأقل ألاّ تُذبح بقرة اليتامى أو أن تخطئ نجمة خضار في تفسير الأحجية وتتحول الغولة إلى عجوز طيبة وتعود البنات سالمات إلى أهلهنّ... كثيرا ما أسمع أمي تصيح قائلة: تلك العمياء التي تشغل ذلك الركن من الغرفة تأخذ جزءًا مهما من البيت كان سيكون مكانا لخزانة أو أريكة أو إيصصا لنبات منزلي حتى لو بقي فارغا سيكون أجمل سيتخللّه الضوء في الصباح ويكون أكثر الأركان إضاءة في البيت... تنهض أمي باكرا مكرهة تصيح في وجه هذه وتوبّخ تلك وتلعن اليوم الذي تَركتْ فيه دراستها وتزوّجت من أبي... تحضّر الفطور على مضض نتناوله وتقذف بنا خارجا. ولأنني غبية كجدتي كما تقول أمي اعتدت التأخر عن المدرسة أتظاهر أحيانا بألم في رأسي أو بطني فأغيب وألتزم حجرها في ذلك الركن المضيء من البيت... راح جسد نانا ينحل بمرور الأيام حتى أصبح لا يشغل أكثر من نصف فراشها وأخذ الشحوب يكسو ملامحها يوما بعد يوم وبدأت حكاياها تنتهي في منتصفها ثم أصبحت لا تكاد تبدأ سرد أحداثها حتى يسرقها النوم... شيئا فشيئا أصبح النوم يلازمها ليلا نهارا... رحلت نانا عن الركن وغيّر شعاع الضوء الصباحي مساره أُحرقت السجادة والوسادة والفراش وحتى الحكايا وعبق عرَقِها الطيّب وعطر القرنفل وصابون مايا الفاخر ما يزال يعطر ذلك الرّكن وهذه الحفنة من التراب...