أتذكر بأسى ومرارة وإعجاب وافتخار ذلك المشهد المصور في فيلم الأفيون والعصا.. مشهد أخذ بحق لبوس قمة الجمال التضحية والمقاومة في عز الفقر والحاجة الملحة لضروريات الحياة في قرية من قرى الجزائر العميقة التي قدمت للثورة التحريرية ما قدمت، ودفعت ضريبة صمودها بمحاولة استئصالها من الوجود استئصال الفرنسيين رفقة الحركى لأشجار الزيتون. مشهد يعبر بحق عن دفع ضريبة الالتزام بالمقاومة وتحمل كل تبعاتها صغارا وكبارا في وعي منقطع النظير، وقد أحسن المخرج أحمد راشدي وقبله الكاتب مولود معمري نقل صورة المرحوم ''رويشد'' وهو يؤدي دور الخائن المتعاون مع المستعمر بإتقان تحت اسم ''الطيّب''، ليستغل لحظة من لحظات اشتداد الحصار على دشرة ''ثالة'' ليساوم كما ساوم، وانتقم من أهل قريته الذين يملكون أشجار الزيتون وهو لا يملكها باقتلاعها رفقة الجنود المحتلين.. ليساوم طفلا ترتسم علامات امتزاج البراءة بالمحنة، والملائكية بالقهر، والخوف بالجوع وهو يداعبه بقطعة خبز عله يشتري منه ضميرا عجز عن شرائه من البالغين، فيرفض الصبي أخذها ليس تكبرا على النعمة، وإنما رفضا منه ومقاومة لمن يدعي أنه صاحب هذه النعمة، وهو ما تجلى في مشهد الطفل وهو يقبل قطعة الخبز ويضعها على جانب الطريق. تذكرت هذا المشهد المعبّر عن جانب من جوانب المقاومة الشاملة التي انخرط فيها الشعب الجزائري بجميع فئاته إلا القلة الشاذة منه، والتي كان لها الأثر الطيب في الانتصار على المحتل وأعوانه من أمثال ''الطيب'' الحركي، وكيف أن الشبهة لاحقت المستعمر في منتجاته من لباس وخبز وتلك أقوى المبشرات بنجاح الثورة التحريرية الكبرى. أستحضر هذه المشاهد الرائعة والتي لها ما يوازيها ويعضدها في كل قرى ومداشر الجزائر الثائرة ونحن جميعا أبناء جيل الاستقلال ننظر بأسى وحزن وخيبة أمل لما يجري لإخواننا وأهلنا في فلسطينالمحتلة، ونحن نرى أحفاد قتلة الأنبياء وتلاميذ النازية النجباء يخطون الأفاعيل وينتهكون الأعراف والشرائع ويتفننون في إبادة شعب أعزل يواجه المحتل بصدور عارية يملأها الإيمان بعدالة القضية وهوان كل شيء في سبيل نصرتها. لكن ما يحز في النفس من يحملون اسم ''الطيب'' الذي جسد دوره بتفان وإتقان المرحوم رويشد، وكيف أنهم يخدمون العدو على طريقة الأمثال الشعبية الجزائرية ''يغليو الشربة'' و''يطيحوا البق''، وقد هالني ما سمعته مباشرة بعد أيام عيد الفطر المبارك حين زارت عائلة فلسطينية استضافتها الجزائر حينا من الدهر، حيث أطعمتها من جوع وأمنتها من خوف، ورحلت مع الراحلين بعد اتفاق أوسلو إلى ما سمي دولة السلطة الوطنية الفلسطينية التي أصبحت اليوم دولتين، بنظامين سياسيين مختلفين، هذه العائلة زارت الجزائر، وطافت بأصدقاء وجيران سنوات الوحدة العربية وإلقاء الصهاينة في البحر الميت والأحمر والمتوسط. وبعد دردشة استعاد فيها الجيران الذكريات الجميلة وبطولات المقاومة وعنتريات الإنسان العربي، والسياسات الداخلية والخارجية والأسواق المالية والأزمة العالمية، تخللتها مأدبة عشاء على شرفهم من أجود ما تتقنه العائلات الجزائرية تماشيا مع سياسة ''الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة''، وعلى تباشير الصباح الأولى انطلقت العائلة الفلسطينية ميمنة نحو القاهرة للعودة إلى ربع الوطن مسلوب الإرادة. وكعادة العائلات الجزائرية هب أفرادها إلى الهدايا القادمة إليهم من بلاد المقدس وكلهم شوق لمعرفة ما تحويه لاسيما وأن رائحة أرض المحشر والمنشر لم تغادر أنوفهم بمغادرة أفراد العائلة الفلسطينية لعتبة البيت، وكم كانت المفاجأة عظيمة، والدهشة أعظم، والفتنة عارمة حينما اكتشف هؤلاء الغلابى أن الهدية عبارة عن لباس موشح بعبارة ''صنع في إسرائيل''، ليصدق عليهم قول موزون على قول الفنان القدير عادل إمام ''يخرب بيت اللي بيكرهو وبجواه بحبو''، وخذوا العبرة من مشاهد احمد راشدي ومعايشات مولود معمري في الأفيون والعصا..