ليس من السّهل مشاهدة فيلم ''الخارجون عن القانون'' للمخرج الفرنكو جزائري رشيد بوشارب الذي قدم مؤخرا في عرضه الشرفي على الصحافة الوطنية بقاعة الموڤار تزامنا مع عرضه الأول في مهرجان كان بفرنسا، دون أن تخرج بعدة انطباعات بأن حرب التحرير الوطنية هي انتحار تراجيدي للفرنسيين وهم يشاهدون جزءا بسيطا جدا من أبشع صور العنف والعذاب الذي ألحقته واقترفته فرنسا الاستعمارية في حق الشعب الجزائري الأعزل.. المشاهد للفيلم يدرك حقيقة نوايا بوشارب في تجسيده لهذه القضية والتي لم يكن يقصد منها -لا من قريب ولا من بعيد -توريث الأحقاد والكراهيّة من جيل إلى جيل في صورة ذاكرة معطوبة بجرائم التاريخ والسّياسة، بكونها ذاكرة ضالة أو مضلّلة أو دعوة للثأر والانتقام من أشباح الماضي والحاضر ,هذا ما سيتأثث به فهمك واستيعابك الأوّل لدى مشاهدة رائعة المخرج بوشارب في ''الخارجون عن القانون'' الذي لا يسعك عندما تنتهي من مشاهدته إلا أن تطرح أسئلة وأسئلة مقرونة وبمنظور أكثر عمقا وتعمّقا. يعالج الفيلم، الذي مدته ساعتين باللغتين الفرنسية والعربية، موضوعا في غاية الأهمية لم يسبق وان سلط عليه الضوء من قبل، إذ يتتبع نضال الجزائريين في فترة حرب التحرير الوطنية من فرنسا في طبعتها العنيفة، نوعا ما، منذ الخمسينيات الى غاية الستينيات. أبدع الفيلم في تتبعه للموقف النضالي الصارم للجزائريين الذين قادوا الثورة من فرنسا، والذين رأوا أن ما اخذ بالقوة لا يسترجع الا بالقوة. ترى هل هذه هي الحقيقة فقط فيما قالته لنا كاميرا المخرج المبدع بوشارب؟؟؟ بالتأكيد لا، فالفيلم بمجمله، وبكلّ التفاصيل الشديدة الرّوعة، المبنيّة أساساً على الكتابة بالكاميرا هو ودون مبالغة، إعادة صياغة لجزء بسيط مما حدث في خضم حرب كبيرة حرب التحرير الوطنية وتصغير لحجم بشاعة فرنسا الاستعمارية بلغة الضوء والصّوت، في ربط متسلسل، وإدراك متناهٍ للعلاقة بين كلّ حدث في السنوات التي اختارها لفيلمه وهي الفترة الممتدة ما بين 1945 الى غاية الاستقلال ,1962 وبين أخطر المواقف والكلمات في مسيرة حياة الجزائريين الذين قادوا الثورة التحريرية من فرنسا.... ..لحاجة في نفس بوشارب؟ تبدأ إشارة الفيلم، على صورة كبيرة للأخ الأوسط عبد القادر الذي نفي الى أحد السجون الفرنسية بعد ان اعتقلته القوات الفرنسية في الجزائر اثر مظاهرات 8 ماي 1945، تتراجع الكاميرا _ زوم آوت_ لنكتشف صورة الوالدة التي جسدت دورها الممثلة القديرة ''شافية بودراع'' الأم والابن الصغير ''سعيد'' الذي جسد دوره المغربي جمال دبوز اللذين انتقلا إلى فرنسا ليكونا قرب الابن والأخ المسجون ... ونفهم في هذه الشارة أنّ الأحداث كلّها تدور في أحد البيوت القصديرية التي كان يقطنها الجزائريون المنفيون والمنتقلون الى فرنسا في فترة الوجود الاستعماري في الجزائر.. خلال هذه السّاعات يظهر الأخ الأكبر مسعود الذي عاد من الهند الصينية بعد ان كان مجندا في الصفوف المتقدمة.. تغمر بيت شافية بودراع فرحة العودة وتكتمل هذه الفرحة بخروج عبد القادر من السجن... هي رؤية الأحداث كما رصدتها كاميرا المخرج المبدع ''بوشارب '' من خلال ''الخارجون عن القانون''. لكن ما يستوقفنا للوهلة الأولى خلال مشاهدة هذا الفيلم الذي عرف بوشارب كيف يتحكم في نقل أحداثه من خلال حسن اختياره للديكور، الملابس والاكسسوارات التي نجح إلى حد بعيد في رصدها وجعلها تتطابق مع فترة الخمسينيات والستيينات مسخرا في ذلك إمكانيات رائعة ومذهلة، هو انتقاؤه للممثلين الذين أدوا دور البطولة في هذا الفيلم. عدا شافية بودراع قرر بوشارب إقحام ممثلين أجانب عن الثورة الجزائرية ممثلون يحملون جنسيات مختلفة مغربية يهودية، تونسية.. وكأن الجزائر تخلو من ممثلين بارعين في قمة أداء هذه الأدوار ؟؟ أو لحاجة في نفس بوشارب؟ مجوعة الممثلين الذين دفع بهم المخرج إلى الواجهة لم يتركوا شيئا للصّدفة، للعفوية. أبانوا عن قدرات تمثيليّة ملفتة للانتباه أيقظت هواجس الخوف من موت البطل الرّمز اختارهم حسب نمط اختيار نابع من درايته بشخصيّة كل واحد منهم,لا مجال للخطأ في توزيع الأدوار مما يعني نجاح الممثل بدرجة كبيرة في تقمّص دوره إلى حدّ التماهي,لقد دفعوا بملكاتهم التمثيلية بأحداث الفيلم إلى مستوى من الواقعيّة، لكن هذا لا يمنعنا من البحث في خفايا اختيار هؤلاء الممثلين دون سواهم من الجزائريين وهو ما يجرنا لطرح عدة تساؤلات وقراءة الفيلم ما بين الأسطر. هل أراد بوشارب الترويج لفيلمه وضمان نجاحه بتوظيف شخصية يهودية محبوبة عند الفرنسيين؟ وهل أراد من وراء اختيار القضية الجزائرية موضوعا لفيلمه _ولو انه لم يطرحها في العمق كونه لم يصور بشاعة ووحشية فرنسا الاستعمارية بالقدر الكافي _كسب ثقة الجزائريين إلى صفه لصرف النظر عن التفاصيل التي يراها هو ثانوية من خلال إقحامه لليهود في الفيلم؟ ''الخارجون عن القانون '' لم يتعمق في صلب القضية الألم الذي كان يبدو مجسّماً بصورة معتبرة في الفيلم يظهر من خلال الحماس الذي تولد لدى الأخ عبد القادر بعد خروجه من السجن والأخ الأكبر مسعود اللذين حركا العمل الثوري من فرنسا من خلال قيادتهما لحركة حزب جبهة التحرير الوطني ووضعهم لبعض الخطط للانتقام لإخوانهم المجاهدين في الجزائر، في الوقت الذي اختار الأخ الأصغر سعيد، الابتعاد عن الثورة واللهو في أحد الملاهي الفرنسية التي كان يعمل بها. ولعل اكبر تخطيط كان بقتل الجنرال الفرنسي في مكتبه. الحدث الذي استفز الفرنسيين وراحوا يرتكبون أبشع الجرائم من خلال قنبلة البيوت القصديرية التي كانت تأوي الجزائريين. ولم تقف وحشية فرنسا الاستعمارية عند هذا الحد بل فجروا السيارة التي كانت ستقيل عبد القادر لعبور الحدود نحو ألمانيا رفقة ايمي الشخصية الفرنسية التي ساندت الثورة الجزائرية.. ومن بين لقطات العنف التي صورتها كاميرا بوشارب في هذا الفيلم أيضا المواجهة بين المناضلين الجزائريين والفرنسيين والتي انتهت باستشهاد الأخ الأكبر ''مسعود''. ثم تنقلنا الكاميرا عبر النافذة في محطة الميترو حيث حاول عبد القادر الهروب مع أخيه بعد ان كانت الشرطة الفرنسية تبحث عنهما وصوت الرصاص ينبعث في المحطة في مواجهة بين الجزائريين الذين خرجوا في مظاهرات 17 اكتوبر 1961 والتي انتهت باستشهاد البطل عبد القادر. وفي ونتقال مفاجئ للكاميرا تظهر فرحة الاستقلال وخروج الجزائريين في مختلف أنحاء الجزائر في مظاهرات حاشدة يعبرون من خلالها عن فرحتهم باستنشاق هواء الحرية النقي، لتكون بذلك لقطة وفاة البطل عبد القادر، اللقطة ما قبل الأخيرة التي مهدت للقطة الأخيرة، نشوة الاستقلال. قد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أن معالجة فيلم''الخارجون عن القانون'' لهذه القضية الوطنية والتاريخية ربما لم تتعمق أكثر في صلب القضية ولم تصور بشاعة فرنسا بالحجم الكافي ولا بحجم البلبلة التي اثارها الفيلم قبل عرضه في فرنسا في إطار مهرجان كان السنمائي، حيث أقام الفرسيون الدنيا ولم يقعدوها بعد أن نددوا بعرضه وخرجوا في مظاهرات عارمة في ''كان'' بأصوات معارضة ومنتقدة لكاميرا بوشارب، رغم ان الزاوية التاريخية التي تناولها الفيلم زاوية ضيقة مقارنة ببشاعة الجرائم التي اقترفها الاستعمار الفرنسي المدجج بقوات الحلف الأطلسي في حق الشعب الجزائري الأعزل. وما اثار انتباهنا أيضا هو أن الجزائر لم تحرك ساكنا للرد عليهم بالمثل مقابل عرض فيلم ''رجال والهة'' للمخرج إكزافييه بو فوا، الذي يتحدث عن خطف ومذبحة سبعة رهبان مسيحيين كانوا يعيشون في دير منعزل في الجبال الجزائرية، والذي صور مجزرة فظيعة وقعت عام 1996 أبطالها جزائريون صورتهم عدسة المخرج في أبشع صورة، وهو أمر لا يبدو صحيحاً بحال، وهو ما يؤكد ان المخرج الفرنسي زور الحقائق. فهل ارادت فرنسا بإدخالها هذا الفيلم ضمن منافسة كان رد الصاع صاعين، رغم أنها بذلك لا تصفع إلا نفسها بيدها؟ ن. ت