يعيد التاريخ نفسه بينما يختلف البشر ويتبدلون، ولكن تراث وخبرات الأولين المتراكمة تمشي عبر الأزمان، فكل جيل تسبقه أجيال تندثر عبر السنين وكل منهم يترك تجاربه للآخر لأن الاستمرار مع الماضي هو إحياء للتراث بالكلمة والعبارة، وهوية كل مجتمع وتميزه عن غيره، والأمثال الشعبية واحدة من الموروثات الشعبية الجزائرية التي ورثته الأجيال السالفة في مختلف الميادين المادية والفكرية والمعنوية، تلبية لحاجة المجتمع لحفظ عاداته وتقاليده وغرسها في نفوس الأجيال القادمة، أو لحرصه على نقل معارفه وغرس القيم الفاضلة في نفوس أجياله الجديدة، ومن خلاله جسدت الأمثال الشعبية ثقافة المجتمع وخصوصيته، لما لها من أبعاد نفسية واجتماعية كونها مرآة لتجارب الناس وخبراتهم، ومواقفهم فتناقلها الناس شفاها أو كتابة، وعمل على توحيد الوجدان والطبائع والعادات، ولذلك يعدها البعض حكمة الشعوب..كانت الأمثال الشعبية ولا تزال تتداول بين فئات المجتمع كله، ولا يكاد يخلو حديث لأحدنا من هذه الأمثال التي انتشرت حتى أصبحت من النسيج الثقافي في مجتمعنا، ويصاغ المثل انطلاقا من تجارب وخبرات عميقة، بمفردات مهمة من النسق البلاغي عندنا فما أن يأتي موقف مشابه حتى تتداعى الأفكار، ويتكون المثل على الألسنة، فيقال بعبارة موجزة مؤثرة بأغنى المفردات، وتعبير موجز بليغ يتشكل من مجموعة الفنون القديمة والقصص والحكايات والأساطير المحصورة بمجموعة سكانية معينة في أي بلد من البلاد، كما تعتبر الأمثال بصيغها الأدبية محورا أساسيا من محاور التعبير الأدبي الذي يمارسه الإنسان في حياته اليومية الجارية ليعبر به عن واقع رؤيته للوجود ككل، وعن معطيات هذا الوجود من خلال موقف الإنسان نفسه من هذا الوجود ونظرية للحياة، وهي امتداد من كتاب الله وسنة نبيه في بعض الأحوال نظرا لوجود توافقا بين التوجيهات الدينية والأمثال..وتختلف الأمثال الشعبية في مضمونها مع اختلاف مصادرها من حيث اللهجة أو الألفاظ، فما هي مصادر هذه الأمثال؟ هل تتغير بتغير ظروف المجتمع؟ هل هناك أمثلة متطابقة في عدة دول عربية؟ متى نستخدم هذه الأمثلة ؟ هل مازال شبابنا يذكرها ؟ هل مازالت الأمثال الشعبية جزءا من واقعنا وتؤثر في مسلك الناس؟يحكم على الشعوب من خلال تراثها حيث يصوغ سلوكهم وعلاقاتهم، فالمجتمع غزير التراث يدل ذلك على عظمته، الأمر الذي جعلها محورا أساسيا لاهتمام الكثير من العلماء والباحثين المعنيين بدراسة الثقافة الشعبية و بداية الأمثال الشعبية ونشأتها، ليست وليدة الساعة، بل لكل مثل شعبي حكاية تشكل نموذج عيش وتماثل مع التجربة التي أحاطت بمن ضرب به المثل.. كما أن كل جيل أو بالأحرى كل راو قد يقوم بالتعديل والتبديل، دون قصد طبعا، في المادة التراثية التي في ذاكرته أو أمامه وخاصة الأدبية منها، لذا فلا غرابة أن وجدنا أسطورة ما تتشابه مع أخرى في أمة أو شعب آخر، فقد يكون أصلها واحد، غير أن التحريف قد غير صياغتها وبنيتها . "خذ العبرة من صاحب التجربة لا من الحكيم" تقول خالتي وردية سبعينية من سكان القصبة الأصليين:" أمثالنا خلاصة خبراتنا العميقة، التي تمرسنا بها عبر السنوات الطويلة، وهي الخلاصة المركزة لمعاناتنا وشقائنا وسعادتنا وغضبنا، نسردها بطرق مختلفة ومتنوعة كالسخرية اللاذعة والحكمة الرادعة.. وتسترسل قائلة: في زمن غابر كان الجيل النشء يتعظ ويتقبل النصيحة، يعمل بها فيتحاشى الكثير من المشكلات التي قد تعترضه.. وقد قالوا ناس زمان"خذ العبرة من صاحب التجربة لا من الحكيم" ترافقنا طوال يومنا.. وتطابق إلى حد كبير جدول أيامنا فيما تعترف صفية عشرينية بأن الأمثال تحذير الأسبقين لللاحقين فقد قالوا" اللي ما راهو ليك يعييك" ومعنى ذلك أن الشيء الذي ليس من نصيبنا لا يمكننا أن نطأه، وحين قالوا" خبزة الشركة ما تطيب' والشركة هلكة" صدقوا لأن كل من يشارك أحدا في عمل ما إما يحدث خلاف فيما بينهما وتبخر صداقتهما وإما أن يأكل أخدهما حق الآخر، فالأمثال تحمل الشعبية ذاكرة أهم وأصعب المواقف الحقيقية التي عاصرها أجدادنا ونقلت إلى جيل بعيد جيل كتوثيق لمضمونها الصحيح وإثباتا على استمرارية وجودها بيننا فهي ترافقنا طوال يومنا، وتطابق إلى حد كبير جدول أيامنا، وتبدأ مع الساعات الأولى ليومنا. فقدنا الكثير منها.. ويقول عمي الجيلالي : للأسف الشديد اندثرت العديد من الأمثال الشعبية الصالحة شيئا فشيئا و أصبح استخدامها لا يتعدى حدود الاستدلال بها في محاولات الإقناع عند الحديث بمعنى أن دخول مثل هذه الأمثال قد يساهم في إقناع أي طرف بوجهة نظر كان يرفضها أو تساهم في تغيير قناعات بعض الأشخاص وبالنسبة للعمل بها فأعتقد انه أصبح شبه معدوم لأنها في الأساس منسية و لا تذكر إلا في مناسبات الأحاديث ولو أني أرى أنها مهمة للغاية ليس لشيء إنما تساعد أبنائنا مواجهة تقلبات ظروف الحياة مع الاستناد على تجارب سابقة. الأمثال سلاح ذو حدين ويقول بشير شاب ثلاثيني نحفظ الأمثال الشعبية التي يتداولها المجتمع نتيجة تكرارها في المنزل والشارع وعند الأقرباء، ولكن رغم صحتها فإن بعضها قد يؤثر في النفوس بطريقة سلبية تجعل المرء، في حالة استسلام كلي، لذا توجد بعض الأمثال التي لابد من محاربتها وإن ثبتت لدى البعض صحتها، لكن التجارب قد تتغير من شخص لآخر وإن تشابهت في الشكل العام نتيجة المجتمع والبيئة المتحفظة. سر انتشار الأمثال الشعبية يقول الدكتور محمد شريف حميدات " يستنير الإنسان بفكرة المثل الشعبي، فيكون له عونا في اتخاذ القرارات والمواقف في حياته، فهو يقدم فرصة ثمينة ل للتعرف على خبرات وتجارب الشعوب، وكذلك بعض آيات القرآن التي اتخذ منها الناس مثلا وعبرة، إلى جانب أحاديث الأنبياء والمصلحين وأئمة الفقه والعلم والأدب، من هنا كان للمثل منزلة بالغة لدى مختلف شرائح الناس في منظومة اجتماعية إنسانية مكملة لبعضها البعض، كما تعد روح الفكاهة من أهم الأسباب التي تساعد على انتشار المثل وسرعة تداوله، فالبشر بطبعهم يميلون إلى كل ما هو ظريف ومختصر لا طويل وممل.... كذلك فإن المثل بحكم كونه نابعا من واقع البيئة فإنه ينتشر فيها ويسري بين أفراد المجتمع كما يسري الدم في العروق فهو منهم وإليهم ". (أنت كالكلب إن تركته يلهث وإن أتيت له يلهث) الجدير بالذكر أن المثل يعكس عادات وتقاليد الأمم السابقة وكان وريثا حضاريا للأسلاف السابقة أما من وجهة نظر القرآن والخطاب الإلهي المثل هو ليس بالمعنى المعروف بين الناس بل هو لتقريب الصورة وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه واله وسلم توجد فيها قسم منها الأمثال أما الشعر واختلافه عن المثل لأنه يتطلب الوزن والقافية والصورة العميقة التي تجعله مختلفا لتفسيره عن المثل لكن الاثنين ينطلقان من تجربة واحدة وهي الأحداث التي تثير شجون القائل..وهناك حادثة في التاريخ الإسلامي حدثت بين عمرو بن العاص وقيس بن الاشعث عندما أطلق عمرو كلامه على قيس مستشهدا بقوله تعالى (كمثل الحمار يحملُ أسفاراً ) الجمعة: من الآية5، فرد عليه قيس قائلا (أنت كالكلب أن تركته يلهث وان أتيت له يلهث) من هنا تبين عمق اللغة والثقافة بالمفهوم اللغوي إضافة إلى تقارب العادات والتقاليد بين الناس.