الأمثال الشعبية.. كلام موزون يحمل بين طياته حكم الأسلاف التي تنساب على وقع موسيقى لغوية، فرغم تعاقب الأزمان والتغييرات الحاصلة في بنية المجتمع، ما زال هذا الموروث الحضاري يفرض وجوده بين ثنايا مواقفنا الحياتية، إلا أن مجال استخدامه تقلص كثيرا وسط الجيل الجديد، مقارنة بكبار السن ممن تسري على ألسنهم بكثرة، مما يثير بعض المخاوف من اندثار الثقافة الشعبية. ثمة تعابير عفوية تعبر بدقة عن مواقف مليئة بتجارب حياتية، وحكم ذات قيمة لغوية وجمالية، قد لا يبلغها سوى عقل على قدر من الفطنة والذكاء. والتراث العربي يزخر بالأمثال الشعبية التي تقدم دروسا في الأخلاق، وسلسلة من المواعظ، وتختصر العديد من المعاني في كلمات موجزة، وتعطي صورة عن خصوصيات كل شعب. بهذا الخصوص، استطلعت ''المساء'' آراء بعض شباب اليوم وبعض المختصين ممن أقروا، في العموم، بأنّه لا يمكن إنكار حقيقة أن العامة يتداولون هذه الأمثال في أحاديثهم اليومية، حيث تحضر إلى الذاكرة في مناسبات ومواقف معينة، وأكثر من يتداول هذه الأمثال في زمننا، هم كبار السن الذين شكلت الأمثال جزءا كبيرا من ثقافتهم بالمشافهة، في حين أنّ شباب اليوم المتعلم يجهل العديد من الأمثال الشعبية، رغم أنّ البعض ممن أدركوا قيمتها، عكفوا على جمعها في كتب للحفاظ عليها. تقول السيدة ''سامية. م'' (محامية): ''أستخدم عادة بعض الأمثال الشعبية في بعض المواقف التي أمر بها، وينطق بها اللسان بطريقة عفوية، وقد حفظتها من المحيط الاجتماعي ككل من كثرة ترديدها أمامي.. فبعض المواقف لا يحسمها سوى مثل شعبي مليء بالحكمة، والذكاء الكبير الذي تنم عنه هذه الأخيرة، وهذا الأمر كفيل بتفسير سر حضورها في الذاكرة الشعبية إلى يومنا هذا.." وعن مدى التزامها بتلقين الأمثال الشعبية لأطفالها، تشير بأنّها لا تكلف نفسها عناء ذلك، باعتبار أنها تنتقل تلقائيا من جيل إلى آخر، بمجرد تداولها في الأوساط العائلية''. "سمية بن دحمان''، طالبة بكلية الأدب العربي بجامعة الجزائر تصرح: ''ألاحظ أنّ هناك شبه اندثار للأمثال الشعبية في وسط شباب اليوم عموما، وربّما أنّها سائرة في طريق الاختفاء، طالما أنّه لا يهتم بها ولا يحفظ الكثير منها''.. وتقرّ: ''أنا شخصيا لا أحفظ منها إلا القليل، رغم أنّ العديد من كبار السن ما زالوا يتداولونها بكثرة، والسبب هو كثرة استخدامنا للغة العصر المليئة بالمصطلحات التكنولوجية، لتؤدي الغرض عوضاً عن الأمثال الشعبية." وترى سمية أن التنشئة الاجتماعية لا تحرص على غرس هذا الموروث الحضاري وسط الأبناء، كما أن شباب اليوم لا يفكر في الاطلاع على المكتنزات التراثية، والقلة القليلة الذين يقومون بذلك في الوسط الشبابي، هم عادة من الطلبة المكلفين بإنجاز بحوث عنها. وتستطرد: ''يمكن إعادة هذه الأمثال إلى واجهة حياتنا، عن طريق دمجها في عمل وسائل الإعلام التي تفتقر إلى برامج تشجع الإطلاع على الثرات والحفاظ عليه كنوع من الميراث." السيد ''مصطفى. م'' كاتب، درس اللغة العربية يصرح ل ''المساء'': ''للأسف، إنّ هذه الأمثال لا يتداولها الجيل الجديد من أبنائنا، نظرا لحلول الثقافات السريعة التي تُضخ من الفضائيات محل الثقافات الشعبية، لذلك، هي في تناقص مستمر وسط شباب اليوم." ويختلف الأمر قليلا بالنسبة للبعض ممن يتابعون الفضائيات العربية، حيث تجري على ألسنهم بعض الأمثال العامية العربية التي قد تلتقي مع الأمثال الشعبية الجزائرية... وهذه الأمثال، نجدها تتداول بصفة خاصة بين النساء، سواء العاملات أو الماكثات بالبيت. وبصفة عامة -يضيف- فقد الشباب الكثير من الثقافة الشعبية، حيث لا يهتم بهذه الأمور، إلا القليل النادر، لاسيما وأنّ لديه توجهات علمية في بحوثه الجامعية، ذلك أنّه يعيش في عالمه الافتراضي عبر استخدام مختلف وسائل الاتصال الحديثة. ولهذا، ينبغي إعادة توظيف الأمثال الشعبية الّتي عمل البعض على إخراج البعض منها في الأعمال الأدبية والتلفزيونية، على غرار الكاتب المرحوم بن هدو?ة، والكاتب الدكتور محمد بن أبي شنب رحمه الله. زمن الاستقلالية خنق دور العائلة المحافظة وبرأي السيد محمد بن مدور، مؤرخ، باحث، مؤلف ومخرج إذاعي وتلفزيوني، ومدير الاتصال بالديوان الوطني للتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، فإنّ اندثار الأمثال الشعبية وسط جيل اليوم، يحلينا على حقيقة انتقالنا من عهد العائلات المحافظة الّتي يسيّرها الجد، إلى زمن البحث عن الاستقلالية، حيث أصبح بعض الناس يستهزؤون بها على مر الزمن.. وهذا الاستهزاء بالآخر يقودنا للحديث عن تأثير الفضائيات على الأمة العربية ككل، والّذي يتجلى من خلال تتبع تقاليد الأوروبيين غير المقبولة دينيا واجتماعيا في الدول الإسلامية. ويواصل السيد بن مدور حديثه قائلا: ''التغيير الحاصل لا يظهر من خلال الكلام فحسب، إنّما يتجلى أيضا من خلال نمط الأكل وأشكال اللباس المتداولة حاليا. والمشهد العام يقول بأنّنا فقدنا الكثير من التقاليد الّتي تعكسها الأمثال الشعبية.. وفي هذا الصدد، نجد أنّ الأغاني الشعبية القديمة -مثلا- كانت مرآة عن الحياة التقليدية بكافة تفاصيلها، وعن خصوصيات ذلك الزمان. ويستطرد المؤرخ الباحث، موضحا أن كل ما هو أصلي تعرض للتشويه في الوقت الراهن، وإذا استمرت الأمور بهذا الشكل، فإنّنا مهددون بفقدان القليل المتبقي من التقاليد عامة، والأمثال الشعبية على وجه التحديد." وحسب وجهة نظره، فإنّه في ظل التحول من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية، لم يعد الأبناء يحتكون كثيرا بالأجداد، ليرثوا منهم كل ما يتعلق بالأصالة، وبالتالي، لم تعد الأسر الجزائرية محافظة كما كانت عليه في وقت مضى. وهنا، يستوجب على الدولة اتخاذ كافة الخطوات اللازمة لمواجهة خطر الثقافات الوافدة. وختم السيد بن مدور حديثه بالقول؛ إنّ نقل التراث للأجيال الجديدة مسؤولية ملقاة على عاتق الأسرة والمدرسة وكافة الأطراف الفاعلة في المجتمع، فالتوصل إلى خلق جوّ عام يشجع الحفاظ على التقاليد، مرهون بتظافر جهود الجميع.
قطيعة بين الماضي والحاضر يقول الأستاذ اسماعيل طوبال، باحث في علم الاجتماع، يجدر القول في المقام الأوّل بأنّ الأمثال الشعبية هي جزء لا يتجزأ من التراث اللامادي للأمة والمجتمع، فهي ذاكرة مشتركة بين جميع الأفراد. كما أنّها عبارة عن خلاصة المعارف والتجارب الحياتية للأشخاص، تنتقل من جيل إلى آخر، ويتوارثها الصغار عن الكبار ضمن سلسلة تواصلية، تساهم في الحفاظ على الإرث الثقافي وانتقاله، وبالتالي بقائه. لكن ما هو حاصل اليوم، هو أنّ المجتمع عرف تطورا متسارعا، اهتزت واختلت معه المعالم التي ترشد الأفراد. والتغيير في الحقيقة، أمر لا مفر منه، لأنّه سنة الحياة، لكن المؤسف هو القول بأن هذا التغيير يسري في الاتجاه السلبي تماما، حيث حدثت قطيعة بين الماضي والحاضر، وعوض أن يحصل تواصل الأجيال، أصبحنا أمام ظاهرة تنافر الأجيال، وهو ما يؤدي إلى الصراع الذي من بين ملامحه تخلي الأجيال الصاعدة، خاصة الشباب، عن كل ما يمت للماضي بصلة من عادات وتقاليد وقيم وتراث. إن شباب اليوم يعيش في عصر الأنترنت، والهاتف النقال عصر الموضة، الاستهلاك السريع والآني، يتطلع دائما إلى ما هو وافد من وراء البحر من آخر صيحات التكنولوجيا، اللباس و الغناء، وهو بهذا السلوك، يتخلي تدريجيا عن كل ما هو محلي وأصيل أو تراثي مرتبط بالماضي. فالأمثال الشعبية التي أصبح حيز تداولها يقتصر على فئة محدودة من الناس، غالبا ما تكون مهمشة منحصرة في وسط معين، مثل الشيوخ. كما حصل للطبوع الغنائية الأصيلة مثل؛ الشعبي، البدوي والأندلسي، والتي تم التخلي عنها في مقابل ظهور موجة الراي والهيب هوب. إننا لا نستطيع إيقاف التغيير، لكن نستطيع أن نوجهه. كما أننا لا يمكننا إلقاء اللوم كله على الشباب، لأنّهم خلقوا ليعيشوا زمانهم، إلا أنّنا نحمل المجتمع مسؤولية هذا الوضع الرديء، لأنّه هو المسؤول على تربية وتهذيب أذواق الأفراد و صقلها، ابتداء من الأسرة، المدرسة وحتى المؤسسات الرسمية؛ كدور الشباب والثقافة التي لا تقوم بما يكفي للسهر على الحفاظ على التراث الشعبي، وضمان توصيله إلى الأجيال كذلك، فإنّ وسائل الإعلام المختلفة لديها مسؤولية جسيمة وتاريخية في هذا المسعى النبيل الذي من المفروض أن يكون قضية مجتمع.