هناك معايير كثيرة لمعرفة مدى تحضر أمة من الأمم. فالخبراء يحددون هذه المعايير انطلاقا من جدواها تجاه البشر وتحقيق الرفاهية والنظام والاستقرار، فنجد معايير متعلقة بالاستقرار السياسي ومعايير متعلقة بالزراعة والصناعة وأخرى مرتبطة بالطرقات والنقل، ومعايير متصلة بالتعليم والبحث العلمي. ومن المصائب التي حلت علينا أن معايير التخلف كلها تسقط علينا، فلم نحقق أي معيار في التحضر، على خلاف بعض الدول التي تسمى بالسائرة في طريق النمو، فالبرازيل مثلا تتميز صناعتها بالحيوية والنشاط وماليزيا تحقق في كل سنة نموا صناعيا وتكنولوجيا واضحا، أما عندنا في الجزائر فلا شيء يُذكر. إن الذي لفت انتباهي وحيرني ليس عجزنا فقط في امتلاك قوة علمية معينة ولا تحقيق معيار واحد من معايير التحضر، إنما هو الفوضى العارمة التي غزتنا بعد أن فتحنا لها كل الأبواب، وهذه الفوضى يلاحظها كل من يدب على الأرض من الولدان والكبار، ولعل أبشع صورها سياسة الترقيع في كل شيء، حتى السياسة في حد ذاتها لم تسلم من سياسة الترقيع، ولو أردنا التوضيح أكثر لقلنا إن الترقيع في بلدي ينقسم قسمين: ترقيع معنوي فكري وترقيع مادي ظاهري، ولعل الثاني أوضح من الأول لأنه يرى بالعين ويراه عوام الناس وخاصتهم، أما الثاني فلا ينتبه إليه بدقة إلا الطبقة المثقفة الواعية. وللأسف الشديد، إن الترقيع عندنا صار مثل ترميم الآثار، فكأنه ميزة إيجابية يجب أن نمارسها بإتقان وتفنن ألا ترى أن الطرق عندنا كيف تظهر فيها الحفر والالتواءات، وكيف يقوم عمالنا وكل الناس في حفر طريق بعد مدة قصيرة من إنجازه وكأنه عُبِّدَ ليحفر مرة أخرى، فلا يمكن لك أن تسير بسيارتك وأنت مرتاح لأن الحفر والممهلات كثيرة جدا، فتكره السياقة والمركب ولو كان مريحا. أما الترقيع المعنوي والفكري فهو الأشد فتكا لأنه يرتبط بالعقل الذي هو أساس بناء الحضارة وقيام النهضة، وهذا الترقيع تتعدد جوانبه، ففي مجال التربية والتعليم تجد أن أي قانون أو منهج جديد أو إستراتيجية منقولة لا تدرس جيدا ولا توضع لها خطة دقيقة فتلقى الرفض لدى المعنيين في الميدان وتتعرض لانتقادات شديدة وهزات عنيفة، كما تجد أن التغييرات التي تصدر بين الفينة والأخرى والحلول التي تقدم للإشكالات المطروحة ليست جذرية إنما ترقيعية فتتكرر المشكلات، ألا ترى أن ظاهرة الإضرابات التي يشهدها قطاع التربية مثلا ترجع أساسا إلى سياسة الترقيع التي تقوم بها وزارة التربية في كل مرة، والدليل على ذلك أنه في كل مرة يعترف المسؤولون بتلك الاختلالات الموجودة في القوانين الأساسية والحلول التي قدمت سابقا، وكذلك الحال في مجال الصحة والتعليم العالي وكل القطاعات، وفي كل سنة تتجدد الإضرابات ولا يمكن أن نصدر أحكاما تأبيدية بأن هؤلاء جميعا خارجون عن القانون وأنهم مخطئون. إن سياسة الترقيع ظاهرة مرضية تعكس وضع الأمة، التي أقل ما يقال عنها إنها في غمة، ولا يمكن الخروج من هذه الظاهرة إلا بفكر جديد ونفوس جديدة وأفكار جديدة، أساسها البناء الصحيح الصامد الذي لا يرقع، سواء أكان بناء ماديا أم فكريا.