في هذه الورقة تقرؤون الجزء الأخير من الروبورتاج الذي قاد الدكتور السعيد بوطاجين، من غرب الجزائر إلى شرقها ذهابا وإيابا. ومن فاتته الحلقات الأولى للروبورتاج يمكنه مطالعتها على موقع “الجزائر نيوز" تحت عنوان “ بلاد العوج والممهلات". .. لم أعثر في قسنطينة على ضالتي. حتى العربية نفسها بدأت تنمحي في المحيط وفي أحاديث الناس. انتصرت فرنسا على جمعية العلماء المسلمين بأثر رجعي. كان ذلك متوقعا بالنظر إلى مواطنيها الذين يتواجدون في كل مكان. تغيرت ساحة لابريش وأصبحت مكتظة بالواقفين، بالعاطلين عن العمل، وبالذين يعملون عشر دقائق في اليوم ويقضون بقية الوقت في الشوارع، كما يحدث في الولايات الأخرى. وكان الملل والحزن والقلق والفراغ واقفين أمام المسرح، مثل قنابل صغيرة تنتظر شيئا ما. كان في رأسي العلامة ابن باديس وتضحياته الجليلة، مالك حداد (الروائي العبقري الذي ظلمناه)، رضا حوحو الذي لا قبر له، أقطاب المدينة الذين منحوها بهجتها القديمة. لم تعد الجسور بهية كما وصفها وطار في الزلزال. أصبحت مخيفة. إنها تذكر بالانتحار، وليس بالسياحة والعبقرية البشرية. كم ساخت القيم. لكن القسنطينيين مرتبطون بها بشكل غريب، رغم الضجيج والطرق المحاصرة والأرصفة الضيقة القادمة من جهة القصبة، أو الصاعدة إليها بصعوبة كبيرة. ثم الغلاء... السياحة مجرد وهم كبير نسوقه دون حياء. يجب نسيان هذه الكلمة. لا مكان لركن السيارة. أما السياقة في المدينة فإنها عقوبة شديدة لا يمكن تخيلها. في حين عليك بخيارين من حيث الفندقة، إما أن تقتسم الغرفة مع الصراصير أو تبدد ما تبقى في رصيدك. ويجب أن تبحث عن المعالم التي انقرضت وحل محلها الخطاب الشفهي والصخب العظيم وكرة القدم وما يشبه الألم الذي اكتسح وجوه الناس وهم يتحدثون عن النهب والعدالة وغياب القانون والرجال الذين حرروا البلد من الظلم. في الطريق إلى عنابة كانت صور النوافذ والأبواب المسيجة بالحديد تملأ حقل البصر. الجزائر كلها عبارة عن سجن. وقارنت بين بيوتنا المحاصرة وبيوت الناس. لا مكان للورد في ظل هيمنة الخوف والحديد. تلك هي إنجازاتنا بعد خمسين سنة من الاستقلال. سافر الأمن إلى البلدان الأخرى واستوردنا الخوف. كل خوف الدنيا يتجلى في هيئة النوافذ والأبواب والشرفات التي تحيل على الرعب الذي سكن المدن والنفوس. حديد... حديد في كل مكان. سلاما على آبائنا الذين كانوا آمنين رغم جهلهم. سلاما على السنين الماضية التي كانت فيها الشوارع مضيئة ومطمئنة، ويوم كان الحبق حيا يموسق في المزهريات. لم يكن الطريق مختلفا، الممهلات والحفر والمنعرجات وعدم احترام إشارات المرور، وهناك الجبابرة الذين لا قانون يحكمهم. يقودون كما يريدون، وهم مستعدون للجريمة، للقتل، ثم يقولون “كاتبة"، قضاء وقدر. أجل. هكذا أصبحنا نبرر جرائم الطرقات. عليك أن تودع الدنيا في كل مرة، لأن عودتك غير مضمونة. بالمناسبة: لماذا تشعل الأضواء في وضح النهار؟ أية موضة تعيسة هذه التي اخترعناها ليبصر الناس مركبتنا الجديدة؟ لا أتذكر أني شاهدت شيئا استثنائيا، ما عدا اختفاء خصوصية المدن وغرقها في تماثل غريب. على اليسار، في الطريق إلى عنابة، مدينة الحروش التي ولد فيها الرئيس علي كافي رحمه الله. لا أدري لماذا لا نؤرخ للمكان، مع أن الجزائر كلها مليئة بالدلالات، في حين يعبر السائح غريبا، كأنه في صحراء لا حدَ لها. أصبحنا مجتهدين قي محو مقوَماتنا وتاريخنا. إلى أين نحن ذاهبون بهذا النفي وبهذا النسيان؟ الطريق من جهة منحدر قسنطينة، في اتجاه سكيكدة، يشبه قيامة صغيرة مليئة بالأخطار والمنعرجات والشاحنات والحافلات والتجاوزات القاتلة. الحمار راكب مولاه. تلك هي الحقيقة. لا وقت لك لمشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة والناس الذين يهتمون بأراضيهم وحيواناتهم. لا مطعم ولا مقهى ولا مكان للراحة. لا شيء البتة. ما عدا الباعة الذين يهتمون بالأواني الفخارية وبعض الصناعات التقليدية التي اندثرت، تاركة مكانها للمنتوجات الصينية والاستيراد الفاحش على حساب الصناعة التقليدية. قد تضيع الاتجاه بسبب نقص إشارات المرور، وقد لا تعرف أين أنت، ولا المسافة التي تفصلك عن المدينة القادمة، كما يمكن أن تفاجئك ممهلات أثناء القيادة، وخاصة في الليل. لقد أسهمت البلديات والولايات في تنمية الأخطار والحوادث بطرق قانونية، وبميزانية معتبرة. قال لي أحد المختصين إنه كان بمقدورنا بناء مدن جديدة بالحديد المخصص لسياج البيوت وإشارات الممهلات والاسمنت والزفت. بعد خمسين سنة من الاستقلال اتضح أننا ما زلنا بعيدين جدا عن المدنية، ما زلنا نثرثر كثيرا على حساب حاضر الناس ومستقبلهم. كل شيء في الطريق وعلى الحواف عبارة عن ترقيع، المدارس والسكنات والمؤسسات: العوج العام الذي يحتاج إلى استئصال جذري لبناء بلد حقيقي يشبه البلدان التي تنظر بعيدا. حتى الطرق التي تبدو جميلة لا ثقة فيها، قد تتخرب في أية لحظة بسبب الاستخفاف والإهمال والصفقات المشبوهة. البلد كله قائم على الشك الأعظم. فائض الشك والحذر وفقدان الثقة. قالمة 42 كلم. المراعي على الجهتين. تذكرت أسطورة حمام المسخوطين. لا أدري إن كتب عنها الشاعر أحمد عاشوري المرابط هناك منذ قرون. تمنيت، لولا ضيق الوقت، قضاء ليلة في مدينة أبوليوس والطاهر وطار وكاتب ياسين ومصطفى كاتب ورشيد بوجدرة. لا أحد منهم بقي هناك. تخلى الشرق التعيس عن أبنائه فهاجروا إلى الشمال، إلى العاصمة حيث استقروا وأبدعوا. الشرق والجنوب توأمان. كان الشاعر عادل صياد محقا: كل ما لا ينتمي إلى العاصمة عبارة عن جنوب. لقد عملت السياسات المتعاقبة على تنمية المركز، أما الباقي فلا أهمية له، لأن الوزراء لا يسكنون هناك. دائرة برحال: لم تبق على عنابة سوى مسافة ثلاثين كيلومتر. هاتفني الشاعر الأنيق عبد الحميد شكيل الذي يقطن في هيبون، اسم عنابة القديم. من المهم أن تعرف في كل مدينة أديبا، وبالصدق والأخلاق العالية التي يتصف بها هذا الشاعر. لن أذهب إلى الجامعة. لست بحاجة إلى الأكاديميات. أفضل رؤية نهر سيبوس والبحر والمدينة القديمة. العمران الجديد لا يستهويني أبدا لأنه عدائي وفقير، ما يشبه المراقد والمحتشدات التي أنعم بها علينا التخطيط السيئ. عنابة مثل المدن الأخرى، لولا تاريخها الحافل بالأمجاد. مع ذلك فإن معالمها الحضارية والثقافية مختفية خلف ضجيج السياسة الفاشلة. لم أعرف الطريقة التي لجأ إليها الايطاليون لنقل رفات القديس أوغسطين إلى مدينة بافيا، الرفات والصحون التي صنعت في العهد الفاطمي، تلك التي زينت بها الكنيسة حيث تنام عظامه آمنة. والبلاط أيضا. قال لي البابا آنذاك، بعد الصلاة وما جاورها من طقوس: هل تريد أن تقول كلمة للمصلين تخص القديس؟ لاحظت أن الرفات كانت منقوصة من بعض الأعضاء (لا يكشف عنها إلا مرة واحدة في السنة). قلت للدكتورة باربارا إيرو التي وردت في رواية: أعوذ بالله: لقد حققت حلما صغيرا جدا. رأيت التاريخ البعيد، بعض تاريخي وإرثي، بغض النظر عن التأويلات والقراءات. وها إني في عنابة، موطن القديس أوغسطين، وموطن المواطنين الذين قد لا يعرفون الحكاية، حكاية سفر الرفات عبر مدينة سردينيا، إلى أن استقرت هناك. ومما تذكرته في هذه المدينة، ما قاله لي أحد المهندسين الجزائريين العباقرة ممن التقيت بهم في دبي: كان هذا المواطن الاستثنائي ينوي تزيين الساحة العامة في وسط المدينة، هدية إلى مدينته التي يحبها. أعد العدة واقترح مخططا مدهشا شبيها بمخططات الدول التي تقيم وزنا للجمال. أقصد تلك البلدان التي تسمعون عنها، وبأمواله وتجهيزاته الخاصة. لكنه واجه بيروقراطية جميلة ورائعة، بيروقراطية الجزائر العظيمة. وهكذا سقط المشروع، لكن الساحة لم تسقط، ولم يسقط أحد. مشاريع المواطنة في منتهى الخطر، وعليك أن تحب بلدك بحذر شديد، وبعد تفكير عميق ودراسات متأنية. من الحب ما قتل. كما يقولون. سأرجع إلى عنابة لاحقا. لا أدري لماذا. سأعود إلى البلد كله. رحلة مهمة. ويجب أن أسلك طريق العودة مرورا بقسنطينة وميلة. الطريق الاجتنابي الذي يربط الولاية بالطريق السريع شرق غرب لا يختلف عن عقوبة بأربع نجوم. من المؤسف حقا أن نعثر في البلد على مسالك من هذا النوع. يجب أن يمر المسؤولون من هناك ليعرفوا حجم المأساة: الشعاب والوديان والحجارة والطين والخلاء. هناك ناس يعانون حقا، بعيدا عن المراكز التي استقطبت كل شيء. بعيدا جدا عن جمهورية حيدرة والولاية التاسعة والأربعين حيث يقيم الذين يخططون للحفر والممهلات والأكواخ والحلول الاستعجالية التي أكلت أموال النفط والغاز. قطعت المسافة بين عنابة ومستغانم بمعدل ستين كيلومتر في الساعة تقريبا. لم يكن ينقصني سوى بعض العلف لأطعم دابتي التي تسمى مركبة، مع أنها سيارة رباعية الدفع. أربع عشرة ساعة من الشرق إلى الغرب. وأما السياحة، السياحة في بلاد العوج والممهلات، فتلك حكاية أخرى. على بعض الدول الأوربية والعربية أن تشكر الجزائر لأنها مصرة على تصدير السياح إليها. الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، إلى آخره، من الدول القليلة التي تبذر الملايير في الحديث عن السياحة والتكوين والمرافق، لكنها تعمل بالمقلوب. وإذا أردت أن تصبح شحاذا فما عليك إلا ببرمجة جولة سياحية في البلد، من شماله إلى جنوبه، أو من شرقه إلى غربه. ثمة منطق واحد: إذا كان كبار القوم يقضون عطلهم في الخارج، فلا يمكن الحديث أبدا عن سياحة مستقبلية في بلد يحاربها، من طلوع الشمس إلى غروبها. أما الباقي فمجرد كذب، بالأبيض والأسود تارة، وبالألوان تارة أخر. حسب الظرف والسياق. بلدنا الجميل لا علاقة له بالسياحة، إنه بصدد تقوية الحفر والممهلات التي سينافس بها البلدان التي لا تولي لها أية أهمية. السلام عليك أيها الوطن الجميل، رغم القبح العارم الذي يحيق بنا، ورغم الكذب الرقراق الذي صنع معجزات من الورق. إني ذاهب إلى عاصمة الرستميين، مرورا بمدينة يلل بغليزان. هناك حفر أجمل وممهلات أروع، لكن الطبيعة مثيرة. يبدو لي أني أصبحت في وضع الكاتب ألبير كامو، أتحدث عن الطبيعة وأنسى الناس. إني جزء من الطبيعة التي لم تتشوه بعد، ولم تتحزب.