أعدت هذه الصائفة قراءة كتاب "البخلاء" للجاحظ، فطربت لأمرين اثنين، أولهما أسلوب هذا الناثر العبقري، وثانيهما، طابع الفكاهة الظريفة في غير عنف على الرغم من أنه يتناول موضوعا هو من أقبح المواضيع في الأدب العربي والأدب العالمي، وأعني به التندّر والسخرية من البخلاء. لم أنفجر ضحكا وأنا أرتحل على متن أسلوبه الذي لا يضاهيه إلا أسلوب أبي حيان التوحيدي، غير أنني عندما قرأت قصة ديكة مدينة "مرو" التي تلتقط الحب وتلقمه الدجاج ثم تستعيده منها في خطفة من خطفات البخل، تذكّرت قصة جزائرية يرددها أبناء مدينة البليدة منذ القرن التاسع عشر. هذه القصة دوّنها الأديب الفرنسي ألفونس دوديه، الذي زار الجزائر في أواخر القرن التاسع عشر إلى جانب مقالاته القصصية الظريفة "رسائل من مطحنتي" وروايته "طارطاران دوتارسكون" التي تدور أحداثها في مكان ما من الجزائر. تقول هذه القصة إن أحد الآباء حار في أمر ابنه ومستقبله، فسأله ذات يوم: ما الذي تنوي أن تفعله بحياتك؟ فأجابه: أريد أن أحترف الكسل. وما كان من والده سوى أن أدّبه بالضرب، لكنه لم يرعو، ولم يعد إلى رشده، بل ازداد إصرارا على إصرار. وعندئذ نزل الوالد عند رغبة ابنه فأخذه إلى إنسان معروف بكسله طالبا منه أن يلقّنه جميع الدروس في مضمار الكسل والتكاسل. وكان هذا الإنسان، المربي الغريب العجيب، يمتلك بستانا في قلب المدينة فيه ما شاء الله من الأشجار المثمرة. وما كان يكلف نفسه عناء تسلق هذه الشجرة أو تلك لجني هذه الثمرة أو تلك، بل يظل مستلقيا في بستانه وبالقرب منه قصبة معقوفة الرأس يسحب بها الثمار المتساقطة، ويلتهمها التهاما. ومضت الأيام على هذا النحو، غير أن الوالد أراد أن يعرف مبلغ العلم الذي بلغه ابنه في الكسل والتكاسل، فقصد صاحب البستان. لكنه ما إن استأذن في الدخول حتى وقعت عيناه على ابنه مستلقيا تحت شجرة تين وارفة الظلال لا يكاد يحرك ساكنا من أجل التقوت أو قضاء هذه الحاجة أو تلك. وتصادف في أثناء دخول الأب ذلك البستان أن وقعت حبّة تين على خد ابنه فجعل يخرج لسانه من أجل التهامها، لكنه لم يستطع، وعندئذ خاطب والده بقوله: أرجوك، يا أبي، ألا تريد أن تساعدني وتدفع بهذه الحبّة من التين من خدي وتتركها تنزلق إلى فمي! ولما سمع ذلك المربي الكسول ما قاله الطفل، هب واقفا، وصاح: هيا اغرب عن وجهي، فأنت أعظم منّي في الكسل والتكاسل، وأنا من الآن فصاعدا تلميذ في مدرستك! قلت في نفسي وأنا أتمتع بأسلوب ألفونس دوديه: ثم ماذا لو أن هذه القصة وقعت بين يدي الجاحظ؟ أما كان يجعل منها تحفة من تحف الأدب العربي كله؟ وبالفعل، فالجاحظ يعرّج بنا في كتابه البخلاء في دروب قد لا تخطر على العقل البشري. يتناول مسألة البخل والشح في النفس الإنسانية في أناة وهدوء. وميزته كلها هي أنه لا يؤذي أحدا بما يورده من قصص، بل إننا قد ننسى مضامينها في بعض الأحيان فنطرب عندئذ لأسلوبه قبل أن نطل على جانب التحليل النفسي الذي يقوم به سواء أعالج مسألة الإنسان من حيث هو إنسان أم تحدث عن الديكة والحمير والبغال. كل ذلك دون أن تصيب سهام السخرية هذا الإنسان أو ذاك، ودون أن يشعر أناس هذه الجهة أو تلك من بغداد ومن مرو ونيسابور وما إليها من المدائن الأخرى أنهم هم المعنيون بالنقد. وتلك هي قمّة الأدب الحقيقي الذي يضيف شيئا جديدا إلى الإنسان.