ليس هناك من عدوّ للإنسان إلاّ هو، وعندما يكون الإنسان عدوّ نفسه فتلك البيّنة على جهله، والجهل أخطر عدو تبقى معركته دائرة رحاها لا تحدّدها مدّة زمنية، ولهذا قال رسولنا الكريم "أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، وكان نزول أوّل آية قرآنية تأمر بالقراءة وبالعلم الذي هو من باب كرمه عزّ وجلّ على الإنسان. الجهل الذي نعنيه ليس الأمية بمفهومها المتداول، والعلم لا يعني القدرة على تشكيل الحروف الهجائية إلى جمل وكلام مسطور، وإنّما هو إدراك قيمة الأشياء وفهمها وتوريث معرفتها لمن يأتي بعدنا، لأنّها تجربة وخبرة انبنت عليها حياتنا من خلال آلاف السنين، أي منذ ما تعلّم الإنسان كيف يحفظ سلالته من الزوال والاندثار وترك شواهد تدلّ على خبرته ونجاحاته في المعارك التي خاضها ضد الجهل، لكن السؤال الذي ما يزال يشكّل تحديا للإنسان هو "هل انتصرنا على الجهل؟". بعض الشعوب نعم أحرزت تقدّما في قدرتها على معرفة الأشياء وتقييمها والتنافس على اقتنائها والحصول عليها بأيّ ثمن وبأيّ وسيلة حتى ولو دعت الحاجة إلى الاستعانة بعصابات التهريب، أمّا الشعوب التي فيها هذا النوع من الجهل مازالت لا تعرف كيف تحمي تراثها وتحافظ عليه من السطو والتدمير العمدي، وكذا التهريب المنظّم. الجزائر غنية بتراثها المتنوّع والذي يتشكّل بتشكّل إنسانها الأقدم خبرة بالحياة، والذي ترك تراجم يومياته منذ آلاف السنين مرسومة على الحجارة أو منحوتة منها لتؤكّد عراقة الإنسان على هذه الأرض، لكن هل الإنسان الذي يسول له جهله العبث بهذا التراث وتهريبه من مواقعه إلى أماكن أخرى يدرك جسامة الجريمة التي يرتكبها في حق تاريخه ووطنه؟ إنّ سارق التراث لا يمكن أن ننعته بالأمي لأنّه يدرك كلّ الإدراك قيمة الأشياء المسروقة التي ليست مجرّد حجارة، بل هي تاريخ وثقافة، ولا يمكن لشخص أن تسوّل له يده اقتلاع هذه الحجارة وتهريبها إلاّ بشركاء هم من قريب أو بعيد يعرفون هذه الأماكن معرفة جيّدة، ويعرفون كل المسالك المؤدّية إليها، وربما يشتغلون في حقولها، ولهذا ليس من الغريب أن تفقد الجزائر آلاف التحف ليس من الحظائر المحمية فقط، بل من المتاحف نفسها، تهرّب إلى خارج البلاد وتتحوّل إلى ممتلكات لأشخاص أو دول أو مراكز علمية وأثرية تجرى عليها الدراسات وتفسّر من خلالها المظاهر الطبيعية والكون وتدرس أسرار الحياة والبقاء. إنّ المسؤول الأوّل عن هذا الجهل الذي يضرّ بثقافتنا هو الجهة الوصية، التي وضعت حراسة هذه الأشياء الثمينة في أيد غير أمينة وغير واعية بالقيمة التاريخية التي لا يمكن أن تقدّر بثمن، وجعلتها تعتقد أنّها مجرّد حجارة قد تثير إعجاب السائح أو الباحث فتسهّل له أخذها، نعم هربت آلاف القطع الأثرية والتحف ومازالت تهرب، لكن "هل هناك من يفكر في حماية ما تبقى منها من خلال جردها ووضعها بين أيد تحفظها وتدرك قيمتها ولا تراها مجرد حجارة لا تنفع ولا تضر؟"، يبقى هذا السؤال مطروحا حتى تنتصر معرفة قيمة التحفة على الجهل بها.