يرسم الفنان منير بن يكوس بوجدانه وبصيرته قبل أن يرسم بريشته، فهو الذي حُرِم من نعمة الكلام، ثم البصر، واستطاع مع السنين، أن يسترجع حواسه ولو بشكل نسبي، لينطلق نحو الألوان والتشاكيل التي لا يصدق أحد أنها من وحي إبداعه، تفوَّق بها على بني فنه، وأهداها لجمهوره بعد أن وضع فيها عصارة تجربته وخبرته، التي لا يرضى إلا أن تكون متقنة ولو كلّفه ذلك المزيد من الجهد، والسهر، والإمكانيات المادية. يحتضن رواق "عائشة حداد" إلى غاية 14 نوفمبر الجاري، معرضا تشكيليا للفنان منير بن يكوس بعنوان "الحياة "، يعكس كل ما هو جميل وبهي ومتفائل، حيث يجد الداخل إلى الرواق راحة واسترخاء تحيط به وتزرع في داخله البهجة. ويزداد هذا الإحساس ليتحوّل إلى إعجاب بهذه الموهبة التي قهرت ظروفها الصحية بالتحدي والنجاح. "مهلا".. فأنا لا أسمع ولا أرى جيدا دخلت "المساء" المعرض لتجد الفنان في استقبالها. وقبل أن تلقي التحية سبق منير بالقول: "مهلا، أودّ أن أوضح بداية، أنني لا أسمع ولا أرى جيدا. وأكثر من هذا، فقد كنت في طفولتي أصم، وحينها سافرت إلى فرنسا كي أعالج، وتعلّمت النطق الذي لا أتقنه إلا باللغة الفرنسية إلى حد اليوم؛ حيث أعيش مع عائلتي بمرتفعات الجزائر العاصمة، لكني اليوم أعاني تراجعا كبيرا في بصري، وأحيانا ينزل إلى أقل مستوى، لكنني مصرّ على الحياة رغم كل ذلك". امتلأ المكان بأعمال الفنان منير، حيث تُعرض أعماله في كل مساحة وركن، وهي غاية في الجمال والإبداع؛ فمثلا عرض الزخرفة على الخشب من صناديق بمختلف الأحجام، منها صندوق جهاز العروس، وصندوق الأغراض المنزلية، وصندوق المجوهرات وغيرها، وكذلك الطاولات، والكراسي، والمرايا، والتحف، وحتى أدوات الطعام الباهرة التي، كما قال، خطفت عقل الزائرات كالعادة، وغالبا ما يقتنينها؛ مثل صحون، وبلاتوهات التقديم الخاصة بالضيوف، وكلّها، مثل ما أشار، تحمل روح الجزائر القديمة، وتراثها الزاخر مع الاستعانة بطابع "الأربسك "، خاصة في الزخرفة والمنمنمات والتزهير، علما أنه أكد ل "المساء "، أن الزهور الكثيرة لا تستهويه في الرسم لأنها ستكون حشوا ثقيلا. جانب آخر من المعرض مهم جدا، وهو اللوحات التي تسبي النظر من فرط إبداعها، أغلبها من الحجم الكبير؛ منها لوحة "السلام" ذات الألوان الصاخبة والتشاكيل الحية من رموز وأشكال هندسية تبدو متحرّكة، ومن الإضاءة والأنوار المسلّطة على كل قطعة فيها، تماما كدفء الشمس الذي يتغلغل في كل مكان، علما أن البعض رآها تنتمي لمدرسة بيكاسو. لوحات أخرى أقل حجما جاءت متسلسلة، فيها الكثير من الألوان والطقوس الإفريقية الممتعة والمتنوعة ذات الإيقاع المتناغم، وقد أُعجب بها بعض الزوار الأجانب. الطاووس رمز الحياة لوحة "حياة جديدة" هي باختصار مشهد حيّ لأجمل المخلوقات، وهو الطاووس؛ وكأنّ ريشه المزركش فستان ملكة يتباهى به في وقفة كبرياء وشموخ. كما أكد الفنان أنه رسم هذا الجمال لأنه كان يعيش في قصور قصبة الجزائر في فترات عزّها ومجدها، وكان يرمز للبذخ، وأيضا لتقدير الجمال حيثما وُجِد. وعلى ذكر قصور القصبة، فقد رسم منير بعضها؛ منها دار مصطفى باشا مثلا في لوحة تبرز جمال العمارة، خاصة أنه لايزال يحفظ بعض المعالم في القصبة من أيام طفولته. لوحة "الزوجان" قال إنها موجهة أكثر لجيل الشباب، تجلس فيها شابة وشاب متقابلان يتحاوران، وباقي اللوحة بها أشكال هندسية متنوعة، تبدو كقطع لعب الأطفال بألوان زاهية، وتبدو متحركة خفيفة، تتناسب وروح الشباب. في الجهة المقابلة، تتراءى لوحة "الأمير" حيث تجري معركة طاحنة مع قوات الاحتلال الفرنسي الغزاة وجيش الأمير عبد القادر؛ كرمز للهوية والبطولة ولجزائر المقاومة. ثم تأتي البيئة القبائلية ذات الهواء العليل والثقافة الأصيلة، حيث خصص لها الفنان عدة لوحات منها تلك التي تحمل الرموز الأمازيغية، وأخرى متعلقة بالأواني الفخارية. كما إن هناك لوحة لقطعة حلي شاوية لاتزال النسوة إلى اليوم يتباهين بها. تحية للجزائر البيضاء لوحة تكاد تكون جدارية ضخمة هي "تحية للجزائر العاصمة ". وعنها قال صاحبها: "أردت من خلال هذه المساحة أن أبرز ميناء الجزائر والأحياء الممتدة بعده؛ من ساحة الشهداء إلى السيدة الإفريقية، بل وكلّ خليج الجزائر؛ كي يكتشف الناظر هذا الجمال الرباني الذي يمتزج فيه البياض في العمران مع زرقة البحر ". وعن الألوان المستعملة قال إنه هو من يختارها ويضعها بمساعدة رفيق له، وذلك بسبب مشكل النظر عنده خاصة في الإضاءة القوية أو في العتمة، وغالبا ما يشترط أن يكون اللون الموضوع على اللوحة ب 4 طبقات على الأقل. كما أضاف أن لوحاته تكلفه الكثير ماديا، لذلك تبدو بهذا الشكل الجذّاب؛ فالموهبة وحدها لا تكفي إذا لم تتوفر الوسائل، ناهيك عن استعماله الخشب الأصلي الذي "لا يحول ولا يزول "، كما يحدث مع بعضهم؛ يرسمون على خشب قليل النوعية وسرعان ما يتلف الرسم وينتفخ الخشب. كما يحرص على طلاء القطعة الخشبية عدة مرات ليثبّت اللون، ولا يتغيّر. يستحق هذا المبدع العرفان والتحية؛ فقد غلبت همّته الفنية عجز بصره وسمعه، بل وجعلته أكثر حرصا على تقديم المزيد من التحف.