استضاف الموعد الأدبي بفضاء مكتبة الاجتهاد، أول أمس، المؤرخ المعروف عبد الرحمن بن عطية لتقديم كتابه الصادر في 2025 بعنوان "أوفا (ملك بريطانيا) الكارولنجيون والإسلام"، قدم فيه من خلال معطيات وقراءة تاريخية معمقة الدلائل بأن هذا الملك المخفي في غياهب التاريخ تمت تصفيته بسبب اعتناقه للدين الإسلامي، وهو الذي ترك مسكوكات ضربت في عهده تحمل آيات قرآنية والشهادتين. خلال حديثه ل"المساء" قال الدكتور بن عطية إن هذا الملك "قتلوه جسديا وتاريخيا"، وهو الذي حكم بريطانيا حوالي 40 سنة لكن إرثه بقي مطموسا وهو ما يذكر بزمن الفراعنة حين كان كل فرعون يأتي يمحو ما خلفه الفرعون الذي قبله حتى في النقوش والكتابات والأضرحة وغيرها. أضاف المتحدث أن اجتهاده في الأبحاث والتنقيب في التفاصيل التاريخية كشفت له أن مؤامرة كانت وراء قتل هذا الملك في سنة 796م حيكت بين بابا الفاتكان ليون الثالث الذي انتخب سنة 795 م وبين شارلمان (أصله جرماني وليس كما يروج بأنه فرنسي، أما) وقام بالتنفيذ زوج ابنة أوفا الذي كان هذا الأخير يأتمنه، وما يزيد الدليل قوة هو أن ابنة اوفا قتلت زوجها هذا بالسم بعد خمس سنوات ثأرا لأبيها. المؤرخ الدكتور بن عطية الذي ينشر في مجال التاريخ منذ 30 سنة (في الأصل هو طبيب) قال ل"المساء" إن البحوث الغربية التي تتناول التاريخ القديم بما فيه تاريخ منطقتنا أي شمال إفريقيا والمشرق وكذا تاريخ الإسلام تحمل أيضا جانبا مهما من التوثيق والبحث ذاكرا مثلا كارل بوركلمان الذي كتب في تاريخ الأجناس والأقطار العربية بالألمانية وترجم له الباحث الجزائري تازغوت، مضيفا "نحن ليس لدينا كتاباتنا عن تاريخ الغرب وبالتالي كتابي هذا ليس الأول بل سبقته عدة كتب عن أوروبا وتاريخها". أشار المؤرخ بن عطية في كتابه إلى أن القرن الثامن للميلاد (القرن الأول/الثاني للهجرة) يمثل مرحلة مهمّة من تاريخ أوروبا الغربية، وتتزامن هذه الفترة مع تنصير عدد كبير من البلدان، وصولا إلى الوثنية أو "الهرطقة" تحت حكم الجرمان، والفرنجة الكارولنجيين، مع بيبين القصير وخاصة ابنه الأكبر شارل العظيم (كارلوس ماغنوس)، المعاصر للخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد، وهي أيضا الفترة التي تشهد دخول الإسلام إلى أوروبا، بداية في إيبيريا (الأندلس) سنة 711م، ثم عبر سلسلة جبال البرانس سنة 718م، في منطقة سبتمانية (وكانت عاصمتها ناربون، وتتبع للخلافة الأموية في قرطبة)، ثم استقرار العرب في إقليم بروفانس، وفي وادي الرون، وأبعد شمالا في منطقة الجورا، وصولا إلى بورغونيا. وقبل قرون عديدة من العصر المسيحي، كانت توجد شعوب وقبائل بلجيكية من أصل شمال إفريقي، لكنها وثنية، مستقرة على سواحل بحر المانش وبحر الشمال (إلى غاية لايدن)، مثل قبائل الموريني والميناب. وكان هؤلاء رعاة جمال، استخدمت جمالهم للنقل، وخدمت خلال ثلاثة قرون في الجيوش الميروفنجية، ومن جهة أخرى، كان الميناب مستقرين في إنجلترا وإيرلندا، وقد أعطوا اسمهم لجزر مونا (أنغلزي) ومونابيا (جزيرة مان). أوفا، ملك مرسيا (757–796م)، الذي أنشأ قبل قرن من ألفريد "السور العظيم"، وهو كيان سياسي كان يغطي تقريبا كامل إنجلترا، باستثناء جنوب يوركشير، قام سنة 774م بسك عملات نقدية حملت، بالعربية، عبارة الشهادة الإسلامية وآية من القرآن (سورة 33، الآية 9)، وفي الوسط كتب باللاتينية اللقب: "أوفا ركس"وقد أثارت هذه العملات جدلا واسعا وشكوكا كثيرة حول حقيقة ديانة الملك أوفا. فهل كان مسيحيا أم اعتنق الإسلام؟ تساءل المؤرخ بن عطية "هل كان من المتصوّر، بالنسبة للبريطانيين، أن يكون السكان الأوائل لأرضهم من الإيبيريين أو الليبيين الأفارقة أو الفينيقيين الآسيويين، رغم أن بعض فئات سكانهم ما زالت تمارس لغات قريبة من اللغة الحامية لشمال إفريقيا (مثل الأمازيغية)، أو أن يكون اسم وطنهم، بريطانيا (أو بريتاني)، مستعارا من حاضرةٍ مشرقية؟ لقد محي، حسبه، معظم تاريخ قبيلة الميناب، وتم التعتيم على وجود جمالهم، وبالمثل، حذف مؤرخو الشعب الإنجليزي كل ما يخص الملك أوفا، فلا يرد اسمه حتى في القواميس والموسوعات ضمن قائمة ملوك إنجلترا في تلك الحقبة. ثم يتساءل المؤرخ أيضا "فهل يوجد سر ما يخشى من كشفه أمام الجمهور؟ وهذا ما يؤكده المؤرخ ويل ديورانت في موسوعته "قصة الحضارة" حين يقول: "لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة"، ولا شك أن هذا الازدهار الأخلاقي والديني والعلمي قد جعله أسوة للعالمين، يتطلعون إليه، ويسعون لتقليده والسير على خطاه". للتذكير فإن الملك الإنجليزي أوفا عاش في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، ، وكان أحد أبرز الملوك الأنجلوساكسون الذين وحدوا إمارات الجزيرة البريطانية المتنازعة تحت مملكة مرسيا بعد صراعات وحروب دامت طويلا، ويعد من أعظم ملوك تلك الحقبة فقد تولى الحكم قرابة أربعين سنة، فكان أحد المؤسسين الكبار لتوحيد الجزيرة البريطانية، ومن اللافت أن أوفا لم يستطع تحقيق هذا الإنجاز المذهل بتوحيد الجزيرة تحت سلطته إلا بفضل قوته العسكرية، التي استندت إلى موارد مالية قوية مستمدة من التجارة والثروات.