تستمر بمدينة نيس الفرنسية احتفالية بهنري ماتيس أحد أعلام الفن في القرن العشرين؛ من خلال تنظيم ثمانية معارض في أماكن مختلفة من المدينة، إذ اشتهر بحساسيته الفنية التي انبثقت عن أسفاره إلى الجزائر وانبهاره بالضياء الذي غمر وجه المرأة الشرقية وتأثره بألوان الطبيعة الحارة التي تتميز بها منطقة المغرب العربي الكبير. يحتضن متحف نيس الاحتفالية (من 21 جوان إلى 23 سبتمبر)، وهو المتحف الذي أُطلق عليه اسم الفنان التشكيلي المبدع، حيث تجمع مدينة نيس وهنري ماتيس (1869 – 1954) وشائج تضافرت عاما بعد عام منذ أن قدم إليها بحثا عن جو دافئ يداوي نزلة أصابته، فاحتضنته طوال سبع وثلاثين عاما، ومهّدت له سبل إنجاز أشهر أعماله، ولما توفي أقامت له متحفا يخلّد اسمه. وكان لأسفار ماتيس إلى ألمانيا وإيطاليا وروسيا وأمريكا وتاهيتي، وخصوصا إلى الجزائر والمغرب، أثر في تطور حساسيته الفنية، حيث شكّل الشرق مصدر إلهام بالنسبة له منذ معرض الفن الإسلامي، الذي أقيم في باريس عام 1903، ولوحة “نساء الجزائر العاصمة” لدو لاكروا، وظهر أثر ذلك جليا في تشكيلته “جواري الحريم” ما بين 1921 و1927، التي اعتمد فيها على تقنية المنمنمات، وأضحت إحدى مفاتيح فنه. ومثلما كان استقراره بنيس غير مخطط له سلفا، جاء اقتحامه مجال الفن عن طريق الصدفة أيضا، فقد درس الحقوق والتحق بمكتب أحد العدول، ثم أقعده المرض طوال عام، كان خلاله يحاذي أمه الهاوية في تقليد بعض الرسوم المائية، ويستهدي بكتاب في فن التصوير لفريديريك غوبيل، فلما أنجز عام 1890 عمله الأول “طبيعة ميتة مع كتب”، أحس أنه وجد طريقه، فهجر القانون، والتحق بمدرسة غوستاف مورو، الذي لم يكن يلقّن طلبته أصول فن التصوير بقدر ما كان يعلّمهم التحرر من كل قيد. استفاد ماتيس من دروس أستاذه، فمضى يحفر مَجراه متنقلا بين عدة مدارس، كالتعبيرية والانطباعية الجديدة والتنقيطية والتجريدية والتكعيبية قبل أن يتزعم الحركة الوحشية مع براك ودوران في مطلع القرن العشرين، بابتكار طريقة جديدة تقوم على اللون الصافي خاليا من أي خليط، فاستعمل ألوانا فاقعة، متجانسة كالأزرق والبنفسجي، أو معادلة متقابلة كالأحمر والأخضر. كان يبسط لونا موحّدا بسطا عريضا على مساحات كبيرة، ويحيطها عادة بخط أسود، مما أثار حفيظة النقاد وهواة الفن، الذين اعتبروه مجرد ملوِّن، ورغم ابتعاده عن مغالاة الوحشية وعنف الألوان ظل محافظا على ذلك المبدأ طوال حياته، مثلما ظل يبحث عن طريقة لتنظيم الألوان داخل الفضاء أو ما سماه توازن القوى. في نيس لم يعد ماتيس ذلك الفنان الفوضوي رائد “الوحشية” المثير للجدل عقب كل معرض، ولا رأس حربة الفن الأكثر جدة إلى جانب پيكاسو ودوشامب وبيكابيا، بل صار يستلهم من ضياء الساحل وزرقة المتوسط ودفء المناخ التي لم يجدها في الشمال البارد، أعمالا تبدو بسيطة في الظاهر ولكنها “ثمرة نور ساطع”، كما قال عنها أبولينير.