عذرا قرائي الكرام! أصارحكم بأني لا أشاهد التلافز ذات الغنج والدل والخطر. والأسباب كثر وليس المجال مجال تفصيلها. وإني وقد تعبت من الكتابة والحاسوب حدثتني النفس الأمارة بالسوء أن أشاهد برنامجا نقاشيا أو أخبارا. ففتحت زر تلفازي المغلق منذ أشهر ثلاث. فإذا بي أقع على برنامج شدني منذ اللحظة الأولى. وقلت ما هذا؟ فعذرا يا ذات الخطر فأنا أشد خطرا منك لأني رجل ضئيل جدا أقف شامخا في غير ما زهو أو عجب لا اعباء بالنخبة التي غدرت بشعبها العظيم .. وقد جننت ورب الثورة والسغبة بروعة الأصوات الشبابية وبالمخزون العظيم لهذا البلد العظيم وللتنوع الثقافي الرائع. وكنت أعلم من قبل علم اليقين أن الجزائر باتت منبتا للشعراء في كل أرجائه وخاصة في منطقته الشرقية وفي جنوبه الشاسع. ولكني هذه المرة أدركت أنها باتت منبت أصوات حقيقية مثلما هي وهذا أغرب أمر معدن كوميديين لا ينضب. ولقد راقني أمر هز كياني وأثر في أيما تأثير حين شاهت شبابا متنوعا قبايليا ومزابيا وشاويا وتمراستيا وعربيا وبربريا وإفريقيا يلتقون على وطن واحد وشاهدت الشباب ينشد للجزائر بدموع التحنان وشاهدت "فلة" تذرف الدمع السفوح من أجل الجزائر. ولن أخفي أمري فقد ذرفت دمعا معها حارا من أجل أوطاننا في عصر نحرت فيه الوطنية على مذابح العمالة. ولقد خيل إلي والشباب ينشد للجزائر أني أشاهد جيش حنبعل وفيه النوميدي واللوبي والبوني والإغريقي والإسباني وقد وصل إسبانيا وشق البيرينيه وفرنسا ونهر الرون وأخيرا اجتاز جليد جبال الآلب لأول مرة في التاريخ. ولما أشرف القائد العظيم على سهل البو نظر في اتجاه روما وأشار بإصبعه: من هنا روما. وخطب في جيشه ليرفع من معنوياته ثم جاءهم بأسرى. وطلب من أسيرين أن يتقاتلا والفائز يطلق سراحه للتو. وإذا بالأسرى باقيهم يطلبون نفس المبارزة. وتقاتل الأسرى ومات نصفهم وتحرر النصف الباقي. والتفت حنبعل وقتها لجيشه وقال لهم: إما أن تنتصروا أو تموتوا. فأنتم بعد بين أعدائكم من جميع الرياح. وطارق بن زياد لما اجتاز البرزح الفاصل بين إفريقيا وإيبيريا قال لجيشه نفس القول: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم. وها نحن في وضع شبيه لكن ليس لنا جيش طارق ولا جيش حنبعل. وقد التقيت شبابا جزائريا وحدثتهم عن الثورة الجزائرية ضحكوا مني واستخفوا بها فأخذت أشرح واستعرض التاريخ وأطلب قراءة مذكرات هذا وكتاب ذاك. فسألوني: لماذا نحن في هذا الوضع إذا؟ فقلت: لأننا لم نعرف كيف نبني. وفي اليوم السابع ارتاح الرب وفي اليوم السابع ارتاحت الثورة. واليوم الجزائر ونحن جميعا العدو من ورائنا والعدو من أمامنا بل العدو مننا. وقدرن هو أن ننهض أو نزول ونندثر .
وغنى شباب المدرسة ونوعوا وأخطؤوا هنا ونشزوا هناك وفقدوا حماسهم حينا وانسجامهم حينا. والمهم هو أنهم يعودون ليتلاءموا ويشّاكلوا حين ينشدون للجزائر والمهم هو ذاك الاندفاع وذاك الخام وذاك الجمهور الذي أنقذ جملية بنت تمراست ثلاث مرات تلك التي أدت كلما أدت بصدق نادر وكانت حين ينشد للجزائر تذرف دموع التحنان. ولقد ذكرتني بمادوموازال مونيم في القرن الثامن عشر حين بكت وأبكت باريس في أوبرا باريس.. وأعتقد أن الجزائروتونس والمغرب وباقي البلاد قد بكت حين بكت جميلة. آه يا وطني متى ينهض التنين الراقد فيك؟ أيتها الهمم أينك؟ ألا فانهضي يا أمتي بعربك وبربرك فالغفوة قد طالت والمتربصون كثر. وأقسم بالشعب الثائر في تونس وغيرها وبالسغبة ويوم الثورة لقد بات عندي اسم نوميديا ويوغرطة من أجمل أسماء الدنيا. فرأيت شعوبنا تتألف من جديد لتصنع حضارة جديدة كما فعلت من قبل. أما إذا شقوا صفوفنا فيقضى علينا بعضنا ببعض رؤوس بطيخ برؤوس بطيخ من قبل شعوب لها مصالح. ونحن أليس لنا مصالح؟ ونحن أنظل نبيع بترولا وغازا ونطعم به إلى أن ينضب فنعود رعاة في الصحارى القاحلة والجبال الجرداء. وطارق بن زياد لم يقل لجيشه ستقاتل يا جيشي من أجل الجنة والإسلام بل قال لهم هذا البلد غني وفيه شقراوات حسناوات وستكونون أصهارا وأختانا لأهله. فأين الروح البراجماتية لأسلافنا؟ أين المغامر المقدام بقول أبي القاسم الشابي؟
وأنا لست موسيقيا ولكني درست في معهد عال للموسيقى عرضيا. ولقد درست لطلبتي في خرق واضح للبرامج أروع قصائد الدنيا. وكنت أقول لهم انا لست موسيقيا وهم يصرون أنني فنان. نعم يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. إن قيمة أصوات الشباب الجزائري ليست في القوة أو ولا في الصحة ولا في الخانات أو العذوبة بل في الجرس المميز للصوت الجزائري في هذا الجرس الذي تنشق له سجف السماء في هذا الجرس الجبلي ما قرع تردد صداه مثل صدى أصوات الرعيان في قصة الرعاة للكاتب الفرنسي لوكليزيو تلك التي استوحاها من جبالنا نحن وليس من جبال أوربا .
ولكن هل تكفي الموسيقى لننهض والأصل في النهضة مفقود ألا وهو الروح النافر؟ إنها لا تكفي غير أنها كفيلة بإيقاظ الروح وتحريك السواكن النائمة. إن الفن هو "قلاديمة" ذالك العبد الذي كان يغني لمبلطي المنازل في باب منارة وباب سويقية وغيرهما من أحياء تونس ليخفف عنهم ثقل العمل وأتعابه. وأسأل: أين النهضة العلمية؟ أين فرق الباحثين في الفيزياء والكيمياء والإلكترونيك وغيرها؟ أين أنشتايتنا أين نيوتوتنا أين البقية؟ أين البيروني وابن الهيثم والآخرين. ولكن ضيعت الصيف اللبن. ولقد قال مرة ابن خلدون: "لقد عاد العرب فتوحشوا ومنهم اليوم من لا يعرف أن لأجداده ملكا عظيما". هذه هي الحقيقة المرة التي رفض كتابنا تقليبها. ولقد جاء رحالة فرنسي مجهول الهوية بعده بقرنين وسار في بلاد المغرب مع سيده إذ إنه كان واقعا في الأسر فبيع بيع العبيد. وقد كتب خمس رسائل إلى نسيبه: ثنتان منها عن المعرب وواحدة عن الجزائر وواحدة عن تونس والأخيرة عن ليبيا. ولكن حين وصل إلى مدينة تونس تنفس الصعداء فقد أحس براحة نفسية خالصة هي نفسها التي أحست بها إيزابيل إيبرهارد حين حلت بها قبل أكثر من قرن من الآن. وقد وصف الرجل العرب فقال إنهم في حالة سيئة من تردي الروح. ووصف البلاد التونسية قائلا: إنها لبلد جميل غير أنه خطير بحيواناته الوحشية وبالعرب المتوحشين. ولا تذهبوا بعيدا. فحين ذكرت هذا لعم الطاهر وطار وهو على فراش المرض في باريس وأنا خلي من المسائل القومية والعرقية إذ إني أنتسب لبلد غير متنوع وهو ما فيه سيئ حين ذكرت ذلك له تبسم وقال بذكائه النادر: أو كان البربر أفضل حالا. رجم الله عم الطاهر البربري العربي الأصيل كالجواد العربي البربري ذي اللون الأزرق.
وقد كنت وأنا أشاهد "شبابا و ألحانا" أشاهد حينا جوقا يخطو خطو الملائك فوق جسور قسنطينة المعلقة وفي لحظة تحركت الجسور وانفصلت عن الأرض وارتفعت بهم فإذا بهم يعانقون الشمس وحينا أراهم ينطّون نطّا وقد خرجوا للتو من قصة للأطفال فيتمثلون لك ملائكَ من وهج ونور. ألا يا شباب أمتي في كل من بلدان أمتي ألا عانقوا الشمس وأبدعوا في كل فن وعلم وصنجوا لأوطانكم واحموها من الجهل وباعة الوطن في كل مذبح وعيد. وقد كنت فخورا أيما فحر ببوشناق ملك الملوك لاسيما أني ألفيته وسط الجزائريين جزائريا مثلي تماما حين أكون في الجامعات الجزائرية. فتونسوالجزائر بلد واحد والمغرب والبقية. وإن غدا لناظرة قريب .