بقلم: عبد القادر حمداوي * إن الاعتبارات التي جعلتني لن أحجم عن الكتابة عن هؤلاء الأبطال الخالدين الذين ضربوا أروع الأمثلة على صفحات التاريخ في البطولة والتضحية من أجل عزة هذا الوطن، ذهبوا وأصبحوا في ذاكرة التاريخ. سأحاول أن أضع في هذه الصفحات حقائق صادقة عن الذين قدموا أعز ما لديهم من نفس ونفيس، إننا نحرص على أن نجعل أبناءنا يحبونهم ويرغبون في تعليمهم من أجل معرفة أجدادهم الأحياء منهم والأموات والذي يتزامن مع انطلاق التظاهرة (تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية)، وأخذ العبر من مآثر هذه الشخصيات التاريخية في محاولة لغرسها في نفوس أبنائنا للحفاظ على استمرار ذاكرة التاريخ. ولد رابح بيطاط في 19 ديسمبر 1925 بقسنطينة التي كانت تمثل مدينة العلم، عرف بحبه لوطنه ورفضه للوجود الأجنبي، كان عضوا بارزا في الحركة الوطنية وعضوا مؤسسا للنواة الأولى التي فجرت ثورة نوفمبر 1954. بداية رحلة الفرار عندما اكتشف العدو المنظمة الخاصة فر رابح بيطاط مع 30 مناضلا إلى الجبل واختفوا عن أنظار العدو بضعة أيام، وبعد أن هدأت الأمور رجع إلى قسنطينة وعند عودته ليلا وجد الشرطة تحاصر منزله فولى على أعقابه. اتصل بجماعة الأوراس حيث بقي هناك مدة سنتين، كان خروجه من الأوراس بعد أن حاصرت الشرطة الاستعمارية مكان وجوده اضطر إلى الهروب ليلا راجلا إلى مسكنه حيث وجد صعوبات في التحرك. انضم رابح بيطاط إلى النواة الأولى التي تدعو إلى الإعداد الفعلي للثورة المسلحة، وتم تشكيل مجموعة 22، ومن خلال اجتماعها تم طرح سؤالين أساسين هما: هل تتوقف الثورة بمجرد الحصول على بعض الامتيازات، أم أن الثورة لابد أن تستمر إلى غاية الحصول على الاستقلال التام؟ فاتخذت الجماعة قرارا نهائيا بضرورة اعتماد الكفاح المسلح حتى الحصول على الاستقلال التام. ويذكر رابح بيطاط في جريدة السلام 1نوفمبر 1992 أن آخر اجتماع للجنة الستة التي فجرت الثورة قد عقد في 23 أكتوبر 1954 في العاصمة، حيث تم توزيع المهام نهائيا على الأعضاء، التحق كل واحد بمناطقهم وبقي بيطاط في العاصمة، يمثل منطقة الجزائر وقبل الافتراق من الاجتماع تقرر عقد لقاء بين هؤلاء الأعضاء يوم 11 جانفي 1955 من أجل تقييم العمل المسلح إلا أنهم كانوا مقتنعين بأن البداية ستكون صعبة، وستقع اهتزازات كبيرة مما قد يحدث خللا في التنظيم المتفق عليه. وبعد انطلاق الثورة أخذت الأمور أبعادا خطيرة، عند انقطاع الاتصال بالولايات واستشهد ديدوش مراد الذي خلفه زيغود يوسف. وفي العاصمة كان رابح بيطاط يبحث عن الدعم المادي للثورة وعن منخرطين في صفوف جبهة التحرير الوطني فتعقبت السلطات الفرنسية أثره وتمكنت من إلقاء القبض عليه يوم 16 مارس 1955 وقد أدى القبض عليه إلى تعقيد أمور الثورة، إذ ظلت العاصمة بدون فائدة لفترة وجيزة، فالتموين كان يأتي منها، وبالأخص تموين المنطقتين آنذاك الثالثة والرابعة. ومن دون الأموال التي كان يتحصل عليها بيطاط وياسف سعدي لم يكن بإمكان المجاهدين في الجبال فعل أي شيء. تمكن مسؤول العاصمة من الحصول على مبلغ مالي معتبر في مطلع سنة 1955، وبعدما كان أوعمران يغادر المنطقة الرابعة متوجها الى الجزائر العاصمة بحثا عن منخرطين، حدد أهدافا تتمثل في تقوية صفوف جيش التحرير الوطني وتنظيم النضال الثوري، والتقى أوعمران بياسف سعدي، اقترح عليه هذا الأخير الاتصال بالحركة الوطنية التي يتزعمها مصالي الحاج فهي تمتلك أموالا طائلة، وبإمكانها مساعدة المجاهدين في الجبال إلا أن أوعمران أبدى رفضا قاطعا. صعوبات كانت الحياة السياسية في العاصمة ما تزال تحكمها التشققات بين المركزيين والمصاليين فكان يصعب تجاوز هذه الذكريات التعيسة حتى إن رجال جبهة التحرير الوطني كانوا يجدون صعوبات في تجنيد الفئات الشعبية بسبب استمرار هذه السلوكات. اعتقد الثنائي عبان رمضان وبيطاط أنه بإمكان التوصل إلى إيجاد حل نهائي لمشكلة نقص الأسلحة فطلبا من قائد المنطقة الرابعة والثالثة الحضور إلى العاصمة على جناح السرعة عند مشارف العاصمة، وفي يوم 21 مارس، ستة أيام بعد اللقاء نزل بيطاط من القصبة إلى ساحة الشهداء وبالقرب من بائع الكتب اقترب منه رجل أخبره أن الموعد سيكون في نفس اليوم على الساعة الحادية عشر في شارع رمباردي ميدي، وفي نفس الوقت كانت أجهزة الأمن الاستعمارية تتبع تحركات بيطاط، فالرجل المساعد جودان في نهاية الأمر لم يكن سوى أحد المخبرين الذين اخترقوا الثورة، وحينما توجه بيطاط إلى المكان المحدد ألقى عليه القبض في حين نجا بالقاسم كريم، وعبان رمضان من الكمين بأعجوبة بعد أن تأخرا عن الموعد ببضعة دقائق.... ساهم بفاعلية في تشكيل خلايا جديدة في هذه الفترة القصيرة من بعض المناضلين، كان نشاط بيطاط محل ملاحقة واهتمام من طرف رجال الشرطة الفرنسية. إلا أن شدة كتمان الثورة للسر وحنكته وذكائه جعله يعجز عن كشف المهام التي كان يقوم بها وثقة المناضلين وحبهم له، كان يتمتع بثقة كبيرة لدى الجميع وله كفاءة سياسية، ويصفه بعض زملائه بأنه كان مجاهدا مؤمنا بقضية وطنه، وعين في سنة 1958 وزيرا للدولة خلال الحكومة المؤقتة، وعندما ألقي عليه القبض في مارس 1955، أودع سجن بربروس وبعد مدة تم تحويله إلى فرنسا حيث أضرب عن الطعام عدة مرات احتجاجا على أن معاملته كسجين مدني وليس سياسيا. التحق به محمد بوضياف في سجن دونوا قبل أن يلتقي في سنة 1961بن بلة وآيت أحمد وخيضر. وعند الاستقلال أصبح عضوا في المكتب السياسي مكلفا بالتنظيم في جبهة التحرير الوطني لكنه استقال بسبب خلاف مع بن بلة وعاد بعد حركة 19جوان 1965 ليعين وزيرا مكلفا بالنقل. إثر أول انتخابات تشريعية عام 1977 عين على رأس المجلس الشعبي الوطني لعدة فترات انتخابية، لقد تقلد الرئاسة بعد رحيل الفقيد هواري بومدين يوم 27 / 12 / 1978 فالسلطة هي التي وضعت قانون الانتخابات الرئاسية. لقد مرت هذه الحياة الفذة لهذا الرجل الأمين بمراحل فقد كان يواصل عمله على أيدي معظم الأصدقاء من الثوار والرواد بطريق غير مباشر وممن كانت تربطهم علاقة مباشرة في الدوائر الرسمية والمؤسسات، وعزز هذه الصور كأحسن ما تكون في أعمال معظم الرجال. وتشهد حياته بتطور ملحوظ، فقد اتسعت في أرجاء البلاد اطرادا وتوطيدا وكان ضمن 22 الذين لبوا نداء لتوفير الإمكانيات اللازمة للانطلاق بالثورة إلى الأمام فكان دوي المدافع وطلقات الرشاس بعدما كان تقتيل الأبرياء والابتزاز والتنكيل بالشرفاء. قام بواجبه نحو وطنه على أحسن وجه إلى آخر لحظة من حياته. توفي المجاهد رابح بيطاط في 11 أفريل 2000 بعد أن عاش الاستقلال الذي آمن بتحقيقه فكان دافعا قويا لتفجير الثورة وعان محن السجون الاستعمارية، تمكن بحنكته ودهائه وإخلاصه وحسن خلقه وذكائه من جمع الشمل وإحكام وتنظيم ويمتاز بروح المبادرة، بمواقفه التاريخية وهذا ما جعل الثورة لم تتأثر في سيرها بقوة في هذه المنطقة، رحم اللّه الفقيد رابح بيطاط وأسكنه فسيح جنانه. (إنا للّه وإنا إليه راجعون).