مالك بن نبي: وصراع الأفكار الإيديولوجية المحنطة بقلم: موسى رابح موايسي الحلقة الثالث لقد كان [مالك بن نبي] رحمه الله ظريفا في ظاهره نظيفا في باطنه أنيقا في هندامه حسن العشرة لمجالسيه متفقدا لأحوال أصحابه مهذبا في جميع أحواله جميل الأدب في مأكله وملبسه وما يخصه في أحوال نفسه منبسطا مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة.. ومع طول معاناته للدراسات الإسلامية ومعالجته لها. والتألق في المسائل الصعبة التي تستغرق الجهد وتعيي النفوس وترهق الأعصاب ظل محتفظا بوقار العلماء وبهدوء النفس وصفاء الذهن والخاطر مع طيبة القلب. وقد ترك أثرا جميلا في نفوس عارفيه وتلامذته ومنافسيه.. لقد كان ذكيا حاد الذكاء نافذ البصيرة له بعد النظر ليغوص في أعماق الأشياء حيث يتعمق فيما يعرض عليه من الأمور الفكرية والعلمية دون أن يترك ثغرة من الثغور لغيره فهو يدرس المشاكل ويجيب عنها جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير فتأتي أفكاره شديدة الإعجاب من طرف من لهم حاسة الذوق السليم والفكر المستنير والمنهج المستقيم. وفوق ذلك فهو يعرف كيف يضع الكلام في مواضعه. وكان فكره يلائم تطور الحياة ومستجداتها في كبيرها وصغائرها فيقرأه القاريء المتمعن المدقق فيجلو له بسرعة أنه كلام نابع من قلب مفكرعبقري أصيل له المام واسع ودراية كبيرة بما يدور حوله . فهو المفكر الذي لم يكن غريب عن الأحداث السياسية والإجتماعية والفكرية أوغائب عن الظروف والملابسات الطارئة أبدا. حتى يخيل لك أن نظرته تدل على إسمه وكأنه كان يقرأ الأحداث على لوحة الغيب وهو الأمر الذي من شأنه جعل الناس ينظرون إليه نظرة إحترام وتقدير وإعجاب. كما كانوا يجلونه ويكبرونه فكان يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكبارا وتعظيما.. والحق أن [مالك بن نبي] أستكمل كل أدوات المفكر الكبير من حيث الثبات والثقة ثم التحري والدقة. فقد درس القرآن الكريم وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسنته الشريفة. كما تعمق في الإطلاع على التراث الفكري الإسلامي بجميع فروعه العلمية والفكرية. كما أطلع أيضا على التاريخ الإسلامي والإنساني بصفة عامة بمنهجيته العلمية المعروفة في إستقراء التاريخ وإستنطاقه ومساءلته.. لقد كان [مالك بن نبي] سالكا سبيل (السلف الصالح) في حياته الفكرية والنضالية. وكانت له معرفة بالفلسفة وعلم الإجتماع وعلم النفس الإجتماعي والأقتصاد والسياسية والأخلاق. حيث نجد بصماته واضحة في كل ذلك من خلال نصوصه التي قرأناها وهي موسوعة ذات كم معارفي تكاد تشكل لوحدها دائرة معارف قائمة بذاتها تمشي على الأرض.. لقد بلغ [مالك بن نبي] في عصره أعلى مكانة فكرية لايمكن أن يصلها غيره. وتلك المكانة لايصلها إلا من توفرت له تلك الصفات والخاصيات التي توفرت في [مالك بن نبي] ولا أبالغ في المدح والإطراء ولا نزكي على الله أحدا وإنما نذكرلأهل الفضل فضلهم عملا بالآية الكريمة: (ولاتبخسوا الناس أشياءهم). (الأعراف 85).. ولا أريد في هذا السياق الظهورعلى غير حقيقتي. ونحن نلمس ذلك من خلال قراءتنا لفكره إنه فيلسوف ملهم يمتاز بأسلوبه البليغ وهو الأسلوب الجذاب الذي يصل الى شغاف القلوب حيث يشد إليه القارئ شدا مغناطسيا ويجعله يقرأ له بلهفة الظمآن الذي يشرب من ماء عذب وكلما شرب يزداد عطشا. بالإضافة الى مناقشته الجادة وتحليله العميق للأحداث والمستجدات على إختلاف أشكالها وألوانها. التاريخية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية والأخلاقية والدينية بمنطق الخبير بخبايا الأمور كل هذا يجعلنا نعترف بإعجاب كبير وننوه بقدراته الفكرية النيرة ذات الإشعاع النوراني الوضاء المتلألئ.. نحن نقر جازمين وبما لايدع مجالا للشك أن [مالك بن نبي] من طينة النبغاء والأفذاذ سواء في تديُنه الملتزم أو في أخلاقه العالية أو في إنسانيته السامية التي فاقت كل المقاييس. الأمر الذي جعله بفضل خصاله الحميدة وفضائله الكريمة ذا شخصية خاصة تمثل الأستثناء بامتياز في وقتنا الراهن كما سبق أن ذكرت إنها الصورة الجميلة التي يحملها رجل علم وهب نفسه لخدمة الإسلام بفكره ومنافحة خصومه أعداء الدين ومقارعتهم بالحجة والبرهان وإفحامهم بالعلم وبالبيان فهو فريد زمانه ليس بوسع غيره أن يضاهيه في فكره. أو يوفيه حقه من الوصف والإطراء وهذا جهد مقل.. فإذا قرأنا له من الناحية الفلسفية نجده عملاقا شامخا في فكره وتأملاته لايشابهه أحد سواء من القدماء أو من المحدثين المعاصرين. وإذا قرأنا له من الناحية الإجتماعية نجده محللا ومعللا لايشق له غبار وإذا قرأنا له من الناحية الأدبية نجده المعي زمانه كاتبا مفعما بالحيوية بارعا وناقدا مبدعا. وقد قال عن نفسه أن القصة تستهويه. ولكنه كلف نفسه بخدمة (رسالة نبيلة) وهي رسالة الأنبياء عليهم السلام والعمل على أدائها وتبليغها لأهلها بواسطة نضاله الفكري الذي أختاره لنفسه.. وقد أضفى على أسلوبه الخاص مسحة من الرونق والجمال مما زاد في جمالية نصوصه وجعلها متميزة على غيره من المفكرين الذين أنتحلوا في مناهجهم أسلوبا خاصا بهم وكأنهم يكتبون لأنفسهم وليس لغيرهم الأمر الذي جعل مؤلفاتهم حبيسة أدراجها ورفوفها. ولا من يقرأوها أو يسأل عنها. لأنها ثقيلة في أسلوبها وجافة في أفكارها ومعانيها.. أما [مالك بن نبي] فقد جاء أسلوبه الفلسفي مغايرا لغيره حيث غاص في أعماق الثقافات الإنسانية وعنى بمكنون الفلسفات الإسلامية والغربية حتى أثرى من شواردها ونوادرها ما جعله نسيج وحده فريد عصره في منهجه وفلسفته.. مثل هذا الطراز من الفلاسفة كسب كبير تفيد من تراثه الأجيال وتتفتح بنظراته أكمام المعرفة في كل مجال. لذلك إشتهرت فلسفته وحظيت بإهتمام بالغ من طرف الباحثين والمفكرين عبر العالم. ولم يكن يبحث عن الشهرة وإنما هي التي سعت إليه طائعة غير مكرهة.. (إن فلسفة [مالك بن نبي] بشكل عام هي من النوع المتجدد ليس بتجدد الطبعات ولكن بتحويلها الى رؤية أعمق لدى القاريء من جهة ولكونها كتبت في زمن متقدم على عصرها فإنها ستكتشف أكثر فأكثر مع إمتداد الزمن الحاضر). حيث أن فلسفته الآن أضحت ذات إقبال منقطع النظير من طرف القراء من جهة والباحثين وطلاب العلم والمعرفة من جهة أخرى. حيث كل واحد من هؤلاء الباحثين وجد فيها ضالته.. ولهذا الأساس فإن فلسفة [مالك بن نبي] فرضت وجودها بنفسها نظرا لجاذبيتها التي تشد القاريء إليها شدا مغناطيسيا أكثر من أي وقت مضى.. يتبع..