مرة أخرى أقول اتخذت الصين لنفسها سنة 1978 منعطفا تاريخيا حاسما حينما شرعت في تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح فغيرت بأسلوب تنميتها الحديث وجهها عموما واقتصادها خصوصا إذ تمكنت من كسب الرهان الذي آلت به على نفسها، وهي تحقق معدلات نمو جد عالية . فعرفت بذلك مرحلة جديدة من التنمية مظهرة حيوية فائقة ونظاما محكما جراء اقتحامها تجارب مستجدة في التنمية الاقتصادية بمختلف شعبها وتشعباتها، حيث أنها انطلقت من السكون إلى النهضة بجولات وصولات جد سريعة. فأنست الصين الناس أن الصين مجرد عناصر تاريخية عظيمة أو مضخمة، يهتم بها مثل السور العظيم الذي طوله 6000 كلم وارتفاعه ما بين سبعة وثمانية أمتار والتماثيل الصلصالية التي أبدعت فيها يد الطبيعة، والمغارات العجيبة وإمكانات تجهيزاتها التي أبدع الإنسان الصيني في تسهيل التعامل معها بالمتعة تارة وبالإعجاب تارة أخرى وحدائق »سوتشو« والأنهار وأحواض المياه الكبرى المنتشرة في ربوع الصين شرقا وغربا جنوبا وشمالا، تتوسط المدن أو تنساب ما بين أجزائها وحول أطرافها. وتلك الغابات المترامية الأطراف التي حبا الله بها الصين، والتي احتضنت بالرعاية والعناية حتى شكلت رئة للتنفس ومجالا خصبا تعانقك أزهاره وتحتضنك فتنه بالود والمحبة وأرضه بالاخضرار ونعومة الملمس، وكأن صبايا الصين أعطينها مسحة من أناقة مظهرهن وأسالة شعورهن وانسيابه على طبيعته دون استنساخ ودون مسخ بالتلوين أو التغيير، ولو كانت تلك البساتين والحدائق والضيعات تفتقر إلى زقزقة الطيور وإنشادها، وكأن للصينيين معها عداوة وجفاء، وكأن الطيور بخفتها، برقتها، ما تزال غضبى من قرار الزعيم »ماو« الذي حرمها ذات محاربة من أن تريح أجنحتها من الطيران فتحط على المزارع والحقول فتنقر بذور الأرز وحبات السنابل فما باضت ولا أفرخت في الصين من يومئذ إلى اليوم. فالصين التي مازالت تعتمد الاشتراكية التاريخية كنظام سياسي مكنها من الاستقرار وعدم الانفلات، قد حررت من الجانب الاقتصادي الرأي والفكر والتدبير والمبادرة غير المرتجلة ولا تلك التي تخطأ وتتجنى فيغفر لها وانفتحت عن الخارج تكتسب تجاربه وخبراته وتجلب رؤوس أمواله استثمارًا وإعمارًا، وشراكة عمودية وأفقية، مع كبريات المؤسسات العالمية أمهات الصناعة والفلح والخدمات الارتكازية. وبذات الانفتاح الجسور سوت وضعية الاقتصاد الكلي الذي وصل إلى درجة الانهيار والرهن قبل ثلاثين سنة وجعلت من أوطانها وحرفها ومكنوناتها نفائس ثمينة لمنتجات سياحية ساحرة خلابة توفرت فيها كل وسائل الراحة، بالمعنى السليم المسؤول للكلمة، إنها قررت ففعلت وبرمجت فأنجزت وعملت فنجحت. المرتكزات الاقتصادية الواعدة والانفتاح غير المعقد والمبدأ المنتهج للحداثة الاقتصادية هي جملة عناصر النهضة الإنسانية والاقتصادية المحررة والاجتماعية الداعمة في جمهورية الصين الشعبية. لا ننسى أبدا ولا نجهل أو نتجاهل أن المجتمع الصيني بطن رخو يحمل أكثر من غيره من المجتمعات أطيافا وعرقيات وقوميات ومناطق حكم ذاتي بحجم يتناسب مع حجم المساحة التي تقارب العشرة ملايين كلم مربع، وما يناهز المليار والأربعمائة مليون نسمة تشارك فعاليتها فيما يجب أن تشارك فيه بديمقراطية مسؤولة محدودة الأطر، ذاتية غير مستوردة. حيث أنه لا أحد يمد يده لما ليس له وإلا قطعت، ومن تواكل يترك الفرصة والمكان والمجال لمن يعقلها ويتوكل، الأمر الذي أحدث تغييرا حقيقيا مربحا في كسب رهان الإنسان وفيما يتوصل إليه الإنسان الفاعل في تزامن رهيب بين الانضباط والإبداع والمردودية المرتفعة، أما ما دون ذلك مما يجمد التطور أو يؤجله أو يوقفه فهو مبتذل مرفوض. لذلك فإن رفض الانفصال عن الماضي السياسي في هذا البلد الكبير لم يكبل أو يقيد جهود الحداثة والتطور، ولم ينصب لها العداء إنما ضمن لها المسار والمناخ المناسب والجو اللازم من سلم اجتماعي واستقرار أمني لتنتج ما تريد من الثقيل ومن الخفيف الثمين. لا شك أن هذا رد فعل عنيف عن قديم الإساءات والتراجعات والارتباكات والتلكؤ والتراخي عن الاندماج في العولمة المعاصرة بنظامها اللبرالي الصناعي والتجاري المسيطر التي من لا يركب قطارها في محطاتها الأولى تركته دون أن تنتظره أو تلتفت إليه. إن ما تمتلكه الصين من تاريخ مديد عريق حافظت عليه، وما تكتنزه من نفائس الطبيعة المبتسمة الضاحكة التي عملت على ترقيتها، وحاضر جاد ينذر بوجود طلائع بدأت ترتسم في أرض الواقع تبدو جليا على الوجوه المكتنزة للشباب الذكور والإناث الذين تمتد قاماتهم لتزيد عن قامات الآباء والأجداد، مما يؤكد أن حال العيش قد تحسن ونما، ذلك ما تعكسه أيضا الرفاهية البادية على مباني المدن الكبرى ومحلاتها والطرقات الرئيسية والحدائق الغناء وحظائر السيارات الفارهة التي تغلب عليها الأنواع الألمانية المتميزة بعلو جودتها والتفرد في أصنافها. ويبقى هم الجودة التنافسية في أصناف الصناعات الصينية هو الشغل الشاغل والهاجس المشترك بين أبناء الصين...!؟