الوريدة".. تاريخ عريق يفوح بعبق الأصالة "    موعد عائلي وشباني بألوان الربيع    ضرورة تعزيز الجهود لدعم ومرافقة المشاريع المتعلقة بتربية المائيات    عرقاب يتباحث بتورينو مع الرئيس المدير العام لبيكر هيوز حول فرص الاستثمار في الجزائر    مسؤول فلسطيني : الاحتلال فشل في تشويه "الأونروا" التي ستواصل عملها رغم أزمتها المالية    رئيس الجمهورية يؤكد على ضرورة مراعاة الأولويات التنموية للبلدان الإفريقية    رئيس الجمهورية يستعرض التجربة الجزائرية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية    أمطار مرتقبة على عدة ولايات ابتداء من مساء اليوم الاثنين    بوزيدي : المنتجات المقترحة من طرف البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    الشلف – الصيد البحري : مشاركة أزيد من 70 مرشحا في امتحان مكتسبات الخبرة المهنية    تسخير كل الإمكانيات لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    إجراء اختبارات أول بكالوريا في شعبة الفنون    هنية يُعبّر عن إكباره للجزائر حكومةً وشعباً    العالم بعد 200 يوم من العدوان على غزة    صورة قاتمة حول المغرب    5 شهداء وعشرات الجرحى في قصف صهيوني على غزة    العدوان على غزة: الرئيس عباس يدعو الولايات المتحدة لمنع الكيان الصهيوني من اجتياح مدينة رفح    مولودية الجزائر تقترب من التتويج    تيارت/ انطلاق إعادة تأهيل مركز الفروسية الأمير عبد القادر قريبا    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    شنقريحة يحث على اليقظة..    تقدير فلسطيني للجزائر    رفع سرعة تدفق الأنترنت إلى 1 جيغا    الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنّين    أمّهات يتخلّين عن فلذات أكبادهن بعد الطلاق!    سنتصدّى لكلّ من يسيء للمرجعية الدينية    برمجة ملتقيات علمية وندوات في عدّة ولايات    المدية.. معالم أثرية عريقة    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فرصة مثلى لجعل الجمهور وفيا للسينما    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    الجزائر تُصدّر أقلام الأنسولين إلى السعودية    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    استئناف حجز تذاكر الحجاج لمطار أدرار    بعد الإعلان عن خفْض الفوائد البنكية على قروض الاستثمار: قرارات الحكومة تريح المستثمرين    بعد مسيرة تحكيمية دامت 20 سنة: بوكواسة يودع الملاعب بطريقة خاصة    3 تذاكر ضاعت في نهاية الأسبوع: الثنائي معمري يرفع عدد المتأهلين إلى دورة الأولمبياد    لموقفها الداعم لحق الفلسطينيين قولا وفعلا: هنية يعبر عن إجلاله وإكباره للجزائر    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    مبادرة ذكية لتعزيز اللحمة الوطنية والانسجام الاجتماعي    القضاء على إرهابي بالشلف    تسجيل تلاميذ السنة الأولى بالمدارس القريبة من إقامتهم    إبراز دور وسائل الإعلام في إنهاء الاستعمار    تخوّف من ظهور مرض الصدأ الأصفر    عائد الاستثمار في السينما بأوروبا مثير للاهتمام    "الحراك" يفتح ملفات الفساد ويتتبع فاعليه    مواجهة كل من يسيء للمرجعية الدينية ولثورة نوفمبر    أرسنال يتقدم في مفاوضات ضمّ آيت نوري    مدرب ليون الفرنسي يدعم بقاء بن رحمة    راتب بن ناصر أحد أسباب ميلان للتخلص منه    العثور على الشاب المفقود بشاطئ الناظور في المغرب    "العايلة" ليس فيلما تاريخيا    5 مصابين في حادث دهس    15 جريحا في حوادث الدرجات النارية    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



Trop c'est trop
نشر في صوت الأحرار يوم 21 - 11 - 2009


بقلم الدكتور محي الدين عميمور
يجب أن أعترف بأننا، نحن القوميين والعروبيين والوطنيين والإسلاميين في كل من الجزائر ومصر، كنا عبطاء ولم نفهم أبعاد المؤامرة التي يخطط لها.
ولقد قضيت الأسابيع الماضية وأنا أحاول مواجهة الأزمة التي كنت رأيتها قادمة، حتى ولو لم أكن أتصور أنها ستكون بهذه الآثار المدمرة، وكنت قمت بزيارة إلى مصر سبق أن أشرت لها، ورحت عبر اللقاءات مع الصحفيين هناك وخلال التصريحات الإذاعية والمتلفزة، وخصوصا المتلفزة، أشرح الأمور كما أراها، وأراحني الأشقاء في التلفزة الجزائرية فلم يجدوا ضرورة لدعوتي ومثقفين آخرين لكي نقدم الصورة كما نراها وكما يجب أن تكون.
وكانت مشكلتي الكبرى هي مواجهة عُصاب الدهماء )Psychose de masses( الذي سيطر على كثيرين ليخلق قنابل شوفينية لا ترى إلا ما تحب رؤيته، ولم أكن لأتناسى وجود تيارات تنتظر الفرصة لتخريب العلاقات الجزائرية المصرية والجزائرية العربية والإسلامية بوجه عام.
وكمثال بسيط جدا، كنت قلت حولي بأنني أرفض تصرف راراوا عندما رفض مصافحة مسؤول الفريق المصري في حضور الرئيس السوداني عمر البشير، الذي كان يحاول تهدئة الخواطر بين الفريقين قبل المباراة ) وهو ما كنت دعوت له على قناة دريم 2 المصرية وسخر منه البعض هنا( وكان رفض المصافحة حقا مشروعا لراوراوا إذا كان يتصرف كمواطن أزعجه ما حدث، ولكن ذلك لم يكن من حقه، كممثل لبلد اسمه الجزائر، وكان عليه أن يقتدي بموقف عبد العزيز بو تفليقة الذي لم يعط ظهره حتى لإيهود باراك وهو يتجه نحوه لمصافحته في الرباط، وقد كان قادرا على ذلك، ولكنه واجه الأمر بأنفة الجزائري المجاهد والتقط يد اليهودي الممدودة وأسمعه »وسخ أذنيه« كما يقال على رؤوس الأشهاد، وسجلت الكاميرا كل ذلك.
لكن البعض هنا غضبوا وبعضهم كاد يخاصمني، وليته فعل لأستريح من عبء معارف يحملونني فوق طاقتي، وإن كان هذا لم يختلف على الجانب الآخر، أي على مستوى المصريين.
وبرغم الأعداد الهامة من المثقفين والأشقاء المصريين الذين تعاطفوا مع طرحي للأحداث، سواء قبل المباراة أو بعدها، فإن ما تلقيته من سباب واتهامات بالشوفينية على صفحات الفيس بوك من قبل بعض المصريين، الذي امتص جلّ وقتي، كان كافيا ليزين لي إغلاق النافذة الإلكترونية ومتابعة أفلام توم وجيري.
وأتصور أنه جاء الوقت لاستعرض ما حدث بالضبط انطلاقا مما سمعته بشكل مباشر من شهود الأحداث وأهم ما كنت تناولته سواء عبر الفضائيات، وخصوصا البي بي سي ودريم 2 والساعة )وهي قناة تبث من مصر وتمولها ليبيا وتديرها فاطمة بن حوحو( ليكون كل ذلك محاولة لفهم ما حدث، وبوجه خاص لتدارك ما حدث ومواجهة آثاره وإصلاح ما تم تدميره في النفوس وفي البنايات، وأنا أعرف أن ما سوف أقوله هنا لن يرضي الغوغاء والمخلوقات التي يقال أن عقلها في أذنيها، ولكنني لا أملك تجاهل واجبي في ظروف الفتنة، برغم أن العقلاء ينصحون العقلاء فيها بالاختفاء.
ولقد بدأت عملية التسخين في مصر منذ عدة شهور، وبدا لي أن الجزائر واجهت ذلك بنوع من اللامبالاة الساذجة التي تقول أننا : »غالبينهم غالبينهم«، ولسنا في حاجة لإشعال حماس الجماهير، وهو ما ضاعف منه ضعفنا في مجال الفضائيات.
وكان ملحوظا أن عملية التسخين تتخذ طابعا عدوانيا، ربما لم يكن مقصودا في حد ذاته، ولكن أسيئ فهمه لسبب بسيط مضمونه أن الشعبين لا يعرف أحدهما الآخر ولا يدرك ما يفكر فيه، وهي مسؤولية كل القيادات السياسية التي كانت تتبادل الكلام المعسول بدون توقف عند محاولة فهم ما يفكر فيه الآخر.
وعندما تردد التلفزة المصرية بشكل متواصل : الجزائر بوابتنا نحو الكأس، كان الجزائري يتململ ولا يرى في الأمر مجرد تعبير إعلاني لتشجيع الفريق المصري لا غير.
ولكن، ولأن الصورة التي يحملها الجزائري عن حرب أكتوبر هي صورة أول انتصار عربي عسكري على إسرائيل، فعندما يقول المصري، وغالبا بحسن نية، أننا سنلعب المباراة بروح أكتوبر، قد يجد جزائريا ينفعل قائلا : نحن لسنا إسرائيليين.
وقد كنت في مصر في نهاية أكتوبر، وحاولنا، الأخ عبد القادر حجار وأنا، أن نضع الأمور في مكانها الحقيقي كمجرد مباراة كرة، وأجريت هناك العديد من الأحاديث الصحفية، واستقبلتُ أحسن استقبال من الأشقاء المصريين، وكان احتفال السفارة الجزائرية بأول نوفمبر قمة اللقاءات الأخوية.
وفجأة يدخل على الخط تصرف بدأت الآن أحس بأنه لم يكن مجرد انزلاق لفظي. فالمدعو »عمرو أديب« يتدخل في تلفزة مصرية خاصة بشكل أساء فيه للجزائريين بكل المعاني وما لا أحب أن أستعيده حتى لا أنكأ الجراح، وفي اليوم التالي يقدم المدعو مصطفى عبدو، في إطار الحملة غير المبررة على الجزائر، صورة لتابوت يحمل العلم المصري قال أن الجزائريين كانوا يطوفون به، وهو ما لم يحدث إطلاقا وأشرت إلى ذلك كتابيا في حينه مؤكدا أن الصورة التقطت في مصر.
وكان المثير هنا أن متظاهرين جزائريين فيما بعد صنعوا بالفعل تابوتا وضعوا عليه العلم المصري، وهو أسلوب غير معروف في الجزائر على الإطلاق، لكنهم استرشدوا في ذلك بصورة »عبدو« المفبركة، وكان هذا أمرا أدينه بكل شدة لأن لعلم البلاد قدسيته واحترامه، ولكن من يجرؤ على مواجهة جماهير غاضبة أفلت عيارها عندما سمعت بأن أبناءها قتلوا أو جرحوا أو »اتمرمدوا«.
وتزايد السخط في الجزائر على ما رآه الناس تقاعسا رسميا وسياسيا عن مواجهة الاعتداءات الإعلامية المصرية، ولكن السخط ظل لفظيا محدود التداول، وإن كانت الأرضية في الشارع بدأت تتشبع بالمواد القابلة للاشتعال.
وتصاعدت أصوات وطنية أصيلة في مصر وفي الجزائر تنادي بالهدوء وتحاول وضع العملية في إطارها الكروي المحدود، وكان لعدد من المثقفين المصريين مواقف رجولية رائعة واجهتها ردود فعل غوغائية وصلت إلى حد اتهامها بالخيانة، وبدأت أشعر بأن هناك من سيحاول تصفية الحساب معها، ودفعها إلى التراجع عن مواقفها النبيلة، وهو ما حدث فعلا فيما بعد، مؤكدا بأنه كان هناك من يدبر بليل للوصول إلى هذه النتيجة، بما يعني أن الأمور مخطط لها من قيادات تعرف ماذا تفعل.
ثم جاءت قضية رشق حافلة اللاعبين الجزائريين في القاهرة بالحجارة، وهي قضية صرح وزير الشباب الجزائري بشأنها في نفس اليوم، بذكاء واضح وبتفكير سياسي متميز، أنها قضية هامشية يمكن أن تحدث في أي مكان ولا يجب أن تأخذ أكبر من حجمها، لكن رد فعل الجانب المصري كان الشرارة الحقيقية التي أشعلت النار، فقد ردت قيادات الأمن المصري على ما حدث بموقف أحمق أثبت أنها هي صاحبة القرار وليست مجرد أداة التنفيذ، فدفاعا عن تقصيرها المؤكد تعاملت مع الأمر بسخرية وبتهكم، وادعت أنه تمثيلية قام بها اللاعبون الجزائريون الدوليون الذي كسروا الحافلة من الداخل وجرحوا أنفسهم !!!، وردد الإعلام المصري ذلك بحجم كبير من السخرية اللاذعة التي شبهت ما حدث بالمسلسلات المكسيكية، وهو ما كان له في الجزائر أثر رهيب لأن الناس هنا، وخصوصا بعد التعليقات التي كتبها مصريون في النت والفيس بوك،حيث أحس مواطنونا بأن الجانب الآخر يستهين بهم ويحتقر ذكائهم، وهكذا أخذت كرة الثلج في التضخم.
وأنا أرى أن حادثة الحافلة التي ضربت في القاهرة كانت تماما كحادثة الحافلة التي أصيبت في بيروت وكانت مقدمة الحرب الأهلية اللبنانية، وهو ما يعني أن أول النقاط الواجب دراستها هو تلك القضية على وجه التحديد.
وبدأ كل شيئ مهيئا للانفجار في الجزائر، ثم انطلقت الاتهامات والاتهامات المضادة بعد مباراة القاهرة يوم السبت، ودخل على الخط عنصر جديد لم يكن أحد يعرف مصدره الحقيقي ولم يتوقف أحد للتساؤل عن الموجه الحقيقي له )وهي قضية يجب أيضا أن تبحث فيما بعد بعناية ومن قبل كل المصالح المختصة( وتمثل ذلك في تسجيلات للفيديو بثتها أجهزة الهاتف المحمول وجرى تناقلها في أرجاء البلاد بسرعة غريبة، تشير إلى وجود قتلى في مصر وتقدم صورا حية لمن قالت أنهن جزائريات أسيئت معاملتهن.
واشتعلت النار في الجزائر، والتقطت بعض الصحف الجزائرية الأمر مستغلة رغبة الشارع في التعرف على ما حدث، وتصاعد الإحساس بغياب قيادة إعلامية تتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب ولا تنتظر المهماز أو تبحث عن »المظلة« )parapluie(، وكانت النتيجة المؤسفة انفجار موجات الشغب التي طالت تجمعات ومؤسسات مصرية، واستبقت التحركات الأمنية التي وصلت إلى أماكن الحوادث بعد أن تمكنت الغوغاء من فرض إرادتها كما حدث قبل ذلك في أكثر من مكان.
وهنا أيضا لم يتحرك الإعلام الجزائري المرئي للتوجه إلى حيث وقعت الأحداث لكشف الحقائق وتكذيب أو تصحيح أو تأكيد ما أخذت الفضائيات المصرية مجتمعة تروج له من مآس يتعرض لها المصريون في الجزائر، في حين أن هناك محطة جهوية للتلفزة في وهران كان يمكن لها أن تعطي الصورة الحقيقية لوضعية المصريين في شركة أوراسكوم، التي تكاثرت منها نداءات المصريين طالبة النجدة بشكل درامي انعكس أثره على وجه مذيع فضائية مصرية كان يحرص على أن يبدو أنه يكتم دموعه وهو يتلقى مكالمة من مواطن مصري يقول أنه »يذبح« في الجزائر، وكنت أتساءل من أين لعامل مصري بسيط أو حتى لمهندس مصري أن يعرف رقم هاتف القناة الذي لم يظهر إطلاقا على الشاشة، وفشلت أنا شخصيا في العثور عليه لأوضح الأمر لفضائية مصرية خاصة بدا واضحا أنها تتحرك بالمهماز.
وتزايد الغضب في الشارع الجزائري، وقامت جماعات متشنجة بحرق العلم المصري بعد أن رأت صورا عن حرق مصريين للعلم الجزائري، وهو أمر مرفوض بكل المقاييس ويجب أن يكون في صلب التحقيق الذي يتناول الأمر كله، ويكشف عن مصدر تسجيلات الفيديو التي ردد البعض أنها قادمة من لندن.
بعد التعادل النهائي الذي عرفه ملعب القاهرة بانتصار فريق مصر تقرر أن تجرى مباراة أخري في السودان،وتعالت الأصوات في العاصمة المصرية متنادية لإرسال مشجعين مصريين إلى الخرطوم برغم وجود جالية مصرية كبيرة هناك، وهو ما كان أمرا عاديا لولا دخول أصوات كثيرة على الخط من بينها الرجل القوي في النظام المصري السيد أحمد عز.
ولأن ردود الفعل الجزائرية كانت دائما تتجاوز الفعل نفسه فقد تقرر، ونتيجة لنقص كفاءة الخطوط الجوية الجزائرية فيما يتعلق بعدد الطائرات، أن ترسل بعض الطائرات الكبيرة من نوع »هرقل« التي تستعمل في نقل الجنود وهو ما حدث بالفعل، وبالطبع فطائرات النقل هذه لم تكن مزودة بصورايخ بالستية ولا برشاشات أو قاذفات قنابل، ولم يحدث أن ركبها مشجع واحد يحمل سلاحا، حيث أن هناك قوانين صارمة فيما يتعلق بالسفر الجوي.
وادعت وسائل الإعلام المصرية فيما بعد أن الجزائر أرسلت قوات عسكرية بلباس مشجعين، وارتكزت في ذلك على فهم »عبيط« لهتاف »الجيش والشعب معاك ياسعدان«، ومرة أخرى لأن الناس هناك لا تعرف طبيعة الوضع في الجزائر كنتيجة للثورة التحريرية.
وفي السودان، وفي بلد يوجد فيه نحو 300 ألف مصري وتوجهت إليه أعداد متساوية من المشجعين الجزائريين والمصريين، كان مما يثير الانتباه عشية المباراة تركيز إعلاميين مصريين على أن الجزائر أرسلت مشجعين غوغائيين، قاموا بشراء كل ما في الأسواق السودانية من أسلحة بيضاء، وركزت الكاميرا السودانية، وبشوق لنقل صورة الفنانين المصريين، وبدون أن أستنتج سوء نوايا، ركزت على جناح واحد من المشجعين المصريين لا يزيد عددهم عن مائتين كلهم من الفنانين والكتاب والشخصيات السياسية، بينما ركزت على شباب المشجعين الجزائريين والمتحمسين بدون أن تظهر مرة واحدة بقية المشجعين الجزائريين من وزراء وبرلمانيين وصحفيين، كان من بينهم بلخادم وأبو جرة سلطاني والهاشمي جيار وغيرهم، وكان هذا يصب في خانة الادعاءات بتدني مستوى المشجعين الجزائريين.
ولم تظهر اللقطات »الموجهة« المدرجات الأخرى حيث كان هناك رجال الأمن المصريين والمشجعين المصريين الذين تجاوز عددهم عشرة آلاف في غير المنصة الشرفية، في حين كان المعروف أن مصر كانت مستعدة تماما لاحتواء أي شغب يقوم ضد عناصرها، ومع العلم بأن الصحافة نفسها كانت تشكو من استعمال الحزب المصري الحاكم دائما لجماعات من البلطجية مهمتهم ترويض الخصوم.
وهذا في حد ذاته يطرح أسئلة كثيرة حول التعتيم الكامل على وجود قوات الأمن المصري في بلد يضم جالية كبيرة من المصريين، في حين كان معروفا أن أعدادا هامة من رجال الأمن أرسلت إلى السودان، وهو أمر مشروع ومنطقي، لكن الغريب كان الحرص على أن يقدم المشجعون المصريون من مختلف المستويات كمجموعات معزولة مذعورة وهو ما لم يكن منطقيا ولا صحيحا بشهادة الأمن السوداني، وهكذا حرص مخرج المسرحية الكبرى على أن يبدو الوجود الأمني المصري في الوضعية التي أعتقد أنها تسمى في عالم الكرة : وضعية تسلل.
وأفتح هنا قوسين لأقول بأن مجموعة العمل المشتركة التي يجب أن يتم تشكيلها فيما بعد من الجانبين لبحث ما حدث يجب أن تتلقى من الجانب الآخر قائمة بعشرة أسماء على الأقل من بين آلاف المشجعين الجزائريين تثبت الادعاءات المصرية، لأن السودان يملك قائمة كاملة بأسماء كل الجزائريين الذين ذهبوا على الخرطوم.
والذي حدث هو أن المباراة جرت على أحسن ما يكون، وكان اللاعبون بشكل عام في مستوى عظمة البلدين، وكان المشجعون جميعا وبشكل عام، ومصريين وجزائريين، في المستوى المطلوب. وبرغم حالات فردية معزولة لم تظهر لقطات التلفزة التي لم يكن يسيرها جزائريون لقطة واحدة تؤكد أن مشجعينا أشعلوا الملعب بالصواريخ النارية أو الجرائد المشتعلة، أو قاموا بإلقاء أي مواد على ساحة الملعب أو اعتدوا على أحد أو رفعوا الأسلحة البيضاء في وجه أحد.
ورغم وجود عدد كبير من المصورين المصريين المزودين بعدسات الالتقاط عن بعد لم ينجح أحدهم في التقاط صورة واحدة لمشجع جزائري قام بعمل فاضح مستفز، كما ادعت فنانة مصرية كانت قادرة بهاتفها المحمول أن تصور الدليل المادي.
وكانت الصورة التي نشرتها دريم 2 فيما بعد عن مشجعين يحملون أسلحة بيضاء يلوحون بها صورة لم تعرفها الخرطوم إطلاقا، وأنا هنا أتحدى أن يثبت أحد ذلك، وهو واضح من ملابس الشباب الشتوية وعدم وجود أعلام جزائرية في أيديهم أو لافتات تشجيع وراءهم. لكن الفريق المصري خسر المباراة، وكان هذا إشارة الانطلاق لتنفيذ المخطط الذي وضع لامتصاص غضب شارع مصري تم شحنه خلال شهور متتالية بما جعله يصل إلى اليقين من أن المونديال في »الجيب«.
وجاءت الفرصة السانحة عند وصول أول حافلات المشجعين المصريين إلى المطار حيث كانت هناك تجمعات لأفراد جزائريين غاضبين لم يسمح لهم بحضور المباراة فرشقوا بالحجارة بعض الحافلات، التي لم تكن تحمل أعلاما أو لافتات تشير إلى جنسية من كانوا فيها، وباعتراف الجميع، وهو ما يعني أن حافلات جزائرية كان يُمكن أن ترشق بالحجارة أيضا تعبيرا عن غضب من استبعدوا من حضور المباراة.
وهنا اتضحت أبعاد المخطط.
فقبل أن يتضح ما حدث وقبل أن تصدر السلطات السودانية تقريرها الأمني، كان وزير الإعلام المصري يسارع إلى التنديد بالاعتداء السافر على المشجعين المصريين.
ورحنا نسمع بأن الجزائر قامت بتنظيم ما يتعلق بالمباراة من كل جوانبها، وهو ما يشرفنا أن نسمعه، ولكن هدف المدح كان الذم، إذ أظهر الوجود المصري من مشجعين وجالية وأمن في شكل يستجدي الرثاء ويستقطب الحزن، في إطار نفس المخطط الهادف إلى استنفار تعاطف الجمهور، وتحويل غضبه، المشروع، على خسارة المباراة، إلى غضب غير مبرر على الجزائر شعبا وحكومة ورئيسا.
واتضح أن هناك هدفا آخر هو تحجيم السياسيين والإعلاميين المصريين الشرفاء الذين كانوا يتنادون لإطفاء النار قبل أن يزداد لهيبها، وتعقيد كل من يحاول تفادي الكارثة السياسية.
وكانت النتيجة أن مجدي الجلاد مثلا تراجع عن مواقفه السابقة الرائعة ليسير في تيار الكراهية تماما مثل شوبير وغيرهما، وهكذا انتصر الإعلام المصري ومن يوجهون حركته من وراء ستار، وخسرت العلاقات بين البلدين.
وعندما أتحدث عن التوجيه لا أجانب الحقيقة، فالحملة كانت بدأت أيضا ضد السودان متهمة إياه بالتقصير، ولكن هذا توقف فجأة عندما رأى »المهماز« السياسي أن الأمور تسير في غير صالح مصر، وبأن العالم لم يصدق كل الروايات التي تفننت الفضائيات المصرية الخاصة ثم تبعتها الفضائيات العامة في ترويجها.
ويتواصل مسلسل التحريض ضد الجزائر وتحاصر سفارتنا في مصر، ويتدخل، للمرة الأولى في حياته، نجل الرئيس المصري الأكبر ليصب النابالم على الجمرات المشتعلة.
وهناك كثير أزحته جانبا لضيق المجال وحتى لا أكون ممن يزيدون في تأجج النيران، لكنني أتساءل: ثم ماذا؟
أعتقد أن العلاقات بين البلدين في حاجة لتجميد يستغرق عدة شهور، لكيلا أقول عدة سنوات، يتم فيها بحث كل ما حدث، واتخاذ عقوبات صارمة ضد كل من قام بعمل مخل بقواعد العلاقات الأخوية، وأيا كان نوع ذلك العمل، وأينما كان ذلك العمل، في الجزائر أو في السودان أو في مصر.
وأسمح لنفسي وبكل احترام أن أقول بأنني أرفض فكرة المعاملة بالمثل واستدعاء السفير الجزائري للتشاور، بل أطالب بخطوات متوازية لها إيقاعها الخاص، أولها إعطاء شركات التأمين الفرصة للقيام بدورها في تعويض كل الخسائر التي نتجت عن عمليات التخريب، وثانيها أن يعلن فورا عن إنهاء مهام السفير الجزائري في القاهرة، ووضع العلاقات الديبلوماسية في ثلاجة مؤقتة والاكتفاء، في مرحلة يتم تقديرها، بقائم للأعمال، مع تخفيض عدد الديبلوماسيين في السفارة، وعرض مقر السفير على ضفاف النيل للإيجار، حتى ولو كان هناك من سيعرقل العملية من باب »الزكارة«.
وعلينا دراسة ما حدث، وهو ما لا يمكن أن يقتصر القيام به على موظفين مهمتهم الدفاع عن مواقف حكوماتهم، خطأ أكانت أم صوابا، بل يجب أن يتم عبر عدد من المفكرين والمثقفين تتفق على اختيارهم حكومتا البلدين، وتوضع كل المعطيات تحت تصرفهم ليعرف الشعبان في البلدين ما هي الحقيقة، وتوجه أصابه الاتهام للمجرمين أيا كانوا.
هنا فقط يمكن أن نفكر في عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية وعلى أساس من الاحترام الحقيقي المتبادل للاختيارات السياسية وللمواقف الجهوية والدولية.
ولا يجب أن تكون مشاكل الكرة اللعينة مادة للمقايضة أو للمزايدة أو للشانتاج.
ولكن علينا أن نشكر الكرة فقد كشفت عن أشياء كثيرة كنا، باسم الأخوة، نغض البصر عنها.
وأنا ممن يؤمنون بأن العلاقات بين الجزائر ومصر هي علاقات إستراتيجية تخدم مصلحة البلدين بوجه خاص والوطن العربي بوجه عام، ولكن صديدا كثيرا امتلأت به جروح العلاقات، ويجب أن يتم التطهير قبل الأمل في الالتئام.
وأنا ممن يحبون الشعب المصري ويدركون أنه في معظمه يحب الجزائر ويحترمها، ولعل هذا ما يفسر جزئيا طبيعة الحملة الحالية.
فهناك حالات تتناقض فيها مواقف البلدين، من بينها الموقف تجاه إيران، والموقف من الخلاف الفلسطيني والموقف من حزب الله والموقف من النشاط التركي في المنطقة والموقف من أحداث غزة، ومن حق كل بلد أن يتخذ المواقف التي يراها متجاوبة مع رؤيته ومع نظرته، لكن ليس من حق أحد أن يشوه الصورة الجماهيرية لبلد شقيق لا يتفق معه لفرض وجهة نظره على جماهيره وعلى المنطقة، ومن السخف أن يتم تهويل أحداث شغب مدانة بكل المقاييس لتشويه صورة الموقف السياسي الجزائري.
وأعرف أن ما أقوله لن يرضي كثيرين ولكن ضميري مرتاح لكل كلمة كتبتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.