فما معنى أن يختار كاتب الهجرة بجسمه وقلمه؟ ثم لماذا يصبح له شأن وأي شأن فقط حين يقرر الهجرة، فتنفتح أمامه سبل المجد والكتابة والشهرة· لماذا تمنح الهجرة للكاتب بعدا وصيتا لا تمنحه له الإقامة في وطنه· هل يعود السبب إلى انبهارنا بكل ما يأتي من الضفة الأخرى أم أن السبب يعود إلى أسباب تتعلق بالكاتب، الذي لا تتفتق عبقريته إلا وهو خارج مكانه الأصلي·· وفي جميع الأحوال، فإن هجرة الأسماء ظاهرة عرفتها الجزائر بشكل أكثر حدة مما عرفتها بعض الدول الأخرى، والفارق الوحيد بيننا وبين مصر ولبنان مثلا، هو أن الكاتب عندهم عبقري بكتابته وإبداعه لا بهجرته، أما عندنا فالأمر مختلف لأن الكاتب لا يصبح كذلك إلا إذا ختم كتابته بتأشيرة الهجرة· والأمثلة على ذلك كثيرة·· فأحلام مستغانمي التي بدأت مسيرتها مع الكتابة في الجزائر لو لم تهاجر ما كان لها أن تحقق هذا الحضور والانتشار لو بقيت فيها، والأمر نفسه ينطبق على ياسمينة خضرة الذي كتب العديد من الروايات في الجزائر دون أن يلتفت إليه أحد، لكن الأمر أختلف بعد هجرته فأصبح من أكبر الكتاب مبيعا وانتشارا، ونفس الشيء يمكن أن نقوله بالنسبة لكتاب من الجيل الجديد كعمارة لخوص أو فضيلة الفاروق ·· لقد كانت للكتابة والكتّاب عندنا، كما عند سائر المواطنين، حكاية مع الهجرة، بدأت مع الحركة الاستعمارية، حيث اختار كثير من الكتاب الهجرة إلى فرنسا الوجهة المفضلة لأسباب بعضها موضوعي، وبعضها غير ذلك· وبرزت الظاهرة بعد الاستقلال أثناء العشرية الدموية، حيث فرّ الكثير من الكتاب خوفا على أنفسهم، ليعودوا بعد ذلك أكثر قيمة مما كانوا عليه، وإلى وضع أفضل ممن بقي في الجزائر عاري الصدر والظهر أمام همجية الإرهاب، بل إن منهم من عاد ليتقلد أرفع المناصب والمسؤوليات·· تبدو المشكلة أعقد مما نتصوره، لأنها ترتبط بالتأكيد بأسباب عميقة وخفية تتصل بالوضع الاجتماعي، أوالمناخ السائد داخل البلد، أو بالقناعات الإيديوجية والفكرية والخيارات اللغوية للكاتب· نحن هنا نتكلم عن الهجرة بالاسم فقط، لأننا لا نشكك في وطنية هؤلاء الكتاب الذين اختاروا الهجرة، أو في درجة ارتباطهم بوطنهم ووفائهم لأصولهم وذاكرتهم، كما لا نشكك في مواهبهم وقدراتهم الأدبية والفكرية التي يتمتعون بها·· أتساءل بيني وبين نفسي لماذا لا تسمى هجرة المثقفين والسياسيين والرياضيين والفنانين حرفة مثلما تسمى به هجرة بسطاء الشباب، وهل الفرق الوحيد بينهما هو الجانب القانوني في هجرة هؤلاء، والجانب اللا شرعي في الحرفة، لكنني أميل إلى أن في الحرفة شيئا من الحفرة··· فما هو السر وراء سطوع نجم كل من تسول له نفسه الهجرة خارج الجزائر، حتى أصبح كل ذي قلم يحدث نفسه بالحرفة الأدبية، ولكن حرفة بالقدر·· ولذلك فقد ترددت في اختيار عنوان لهذا الهامش، بين هجرة الأسماء، وبين حراقة بالقدر وكتاب يموتون بالشر، خوفا من يقرأ عنوان الحرفة الأدبية قراءة خاطئة، ويفهم على غير الوجه الذي أريد له· لكن رأيي استقر على اختيار العنوان المدون أعلاه، والله من وراء القصد·· [email protected]