4000 أستاذ جديد في الجامعات    بداية عملية نقل الأساتذة    غزة: استشهاد 100 فلسطيني منذ فجر يوم الأربعاء في قصف صهيوني متواصل على القطاع    سجّاتي ومولى يبلغان نصف نهائي ال800 متر    هذا جديد الأطلس اللساني الجزائري    بداية الاحتجاجات في فرنسا وسط توقعات توقف وشلل في العديد من القطاعات    اجتماع مجلس السلم والأمن الإفريقي: الجزائر تدعو إلى التسريع لصياغة الموقف الإفريقي المشترك لرفع التحديات المناخية في القارة    سعيود ودربال في زيارة عمل وتفقد إلى ولاية البليدة    مجلس الأمن الدولي يصوت اليوم على "مشروع قرار" جديد بشأن غزة    إبادة صحيّة ممنهجة تقتضي تدخل دولي عاجل ج/1    الاحتلال يستميت في قتل وجرح وترويع الشعب الفلسطيني    إرهابي يسلم نفسه للسلطات العسكرية    التكفل براحة المواطن و رضاه من أولى أولويات القطاع    البيض : هلاك 4 أشخاص وإصابة 4 آخرين    إيداع شخص الحبس المؤقت بتهمة ترويج المخدرات    مهمتنا حماية القدرة الشرائية وتوفير بيئة تجارية شفافة    اختتام فعاليات الطبعة 27 للأسبوع الوطني للقرآن الكريم ببومرداس    إقرار جملة من الإجراءات لضمان "خدمة نموذجية" للمريض    فرنسا على موعد جديد مع "رياح خريف" الغضب    "لوجيترانس" لتسيير المعبر الحدودي "مصطفى بن بولعيد"    تعزيز التواصل بين المؤسّسة التشريعية وممثلي المجتمع المدني    مهرجان عنابة يكرّم لخضر حمينة ويخاطب المستقبل    التكفّل التام بضحايا حادثة عضّات الكلب بأم البواقي    أشغال عمومية: جلاوي يعقد عدة لقاءات لبحث وضعية المشاريع الإستراتيجية الكبرى للقطاع    الصالون الدولي للصناعات الغذائية بموسكو: حركية مكثفة ولقاءات ثنائية بالجناح الجزائري    دعوة لترسيخ ثقافة السلام والتسامح في العلاقات الدولية    كرة القدم/رابطة ابطال افريقيا/الدور الأول التمهيدي (ذهاب): م.الجزائر و ش.القبائل في حملة السعي نحو استعادة المجد الافريقي    جيدو- مونديال 2025 (أواسط): الجزائر حاضرة بستة مصارعين في موعد ليما (بيرو)    الإعلام الافتراضي أحد الأدوات الرئيسة في الصراع العالمي    استعدادات نفسية وتربوية بعنابة    شاهد آخر على بشاعة وهمجية الاستعمار    دعوة لإعادة تكوين السواق وصيانة الطرقات للحد من حوادث المرور    سفير زيمبابوي في زيارة لجامعة باجي مختار    قانون الإجراءات الجزائية محور يوم دراسي    رعاية الأمومة والطفولة: التكوين المتواصل عاملا محوريا في تحقيق الجودة واليقظة المستمرة    110 ألف قنطار من البذور تم تحضيرها للموسم الجديد    التناقض يضرب مشوار حسام عوار مع اتحاد جدة    بن سبعيني يتألق أوروبيا ويثير أزمة بسبب ضربة جزاء    "الألسكو" في الجزائر لبحث سُبل حماية تراث العرب    إحياء التراث بالحركة واللوحةُ رسالة قبل أن تكون تقنيات    بجاية: العثور على 120 قطعة نقدية من العصور القديمة    براهيمي ينتظر تأشيرة العمل لبدء مشواره مع سانتوس    زرّوقي يتفقّد المدرسة العليا للتكنولوجيات    خدمات جديدة لاقتناء التذاكر إلكترونياً    تحية إلى صانعي الرجال وقائدي الأجيال..    الرابطة الثانية هواة لكرة القدم/الجولة الثانية : فرصة لبعض الأندية للتأكيد ولأخرى للتدارك    المعرض العالمي بأوساكا: الجزائر تنظم ندوة علمية حول الاستراتيجية الوطنية لتطوير الطاقة المتجددة والهيدروجين    المهرجان الثقافي الدولي للسينما إمدغاسن: فيلم "نية" من الجزائر ينال جائزة أحسن فيلم روائي قصير    يعكس التزام الدولة بضمان الأمن الدوائي الوطني    تمكين المواطنين من نتائج ملموسة في المجال الصحي    انطلاق الحفريات العاشرة بموقع "رجل تيغنيف القديم"    حضور جزائري في سفينة النيل    صناعة صيدلانية : تنصيب أعضاء جهاز الرصد واليقظة لوفرة المواد الصيدلانية    أبو أيوب الأنصاري.. قصة رجل من الجنة    الإمام رمز للاجتماع والوحدة والألفة    تحوّل استراتيجي في مسار الأمن الصحّي    من أسماء الله الحسنى (المَلِك)    }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المخاض الانتقالي العسير
نشر في الفجر يوم 14 - 11 - 2014

فوجئت برحيله مفاجأة كاملة، ولم أصدق في بداية الأمر. لم أكن أعرف أنه مريض. لا أزعم أني كنت من أصدقائه المقربين، بل ولم ألتقِ به إلا مرة واحدة. كان قد سمع أني معجب بمؤلفاته وبطريقة تفكيكه ل”عقدة العقد التراثية”. وبالفعل، فقد عبرت عن ذلك أكثر من مرة في الجرائد العربية، وبخاصة في ”الشرق الأوسط”، وكان من قرائها ويستشهد بها أحيانا، فاتصل بي في أحد الأيام لكي نتعارف، بعدها سافرت إلى المغرب الجميل، وأصبحت متنقلا هنا أو هناك ومشردا في شتى أصقاع الأرض، ولم أعد أرى أحدا.
نعم، لقد أمضيت وقتا ممتعا جدا في قراءته قبل أي معرفة شخصية، واستغربت كيف أنه تنويري قاطع إلى مثل هذا الحد، وشكل ذلك بالنسبة لي سعادة حقيقية. أقول ذلك، وبخاصة أنه سليل عائلة دينية عريقة في تونس.. هل يعني ذلك أن أولاد المشايخ هم الأكثر قدرة على تفكيك الأصوليات الدينية؟ ليس بالضرورة، ولكن عندما تكون رائحة اللاهوت والكهنوت تملأ البيت صباحا ومساء، فإن ذلك قد يثير رد الفعل. ألم يكن نيتشه ابن عائلة كهنوتية بروتستانتية أبا عن جد منذ مئات السنين؟ ومع ذلك فقد فكك الأصولية المسيحية من أساسات أساساتها ولم يبقِ فيها حجرا على حجر، وكان أخشى ما يخشاه أن تطلع أمه التقية الورعة على كتاباته حول هذا الموضوع!
المهم أن عبد الوهاب المؤدب انخرط بعد 11 سبتمبر (أيلول) في تأليف سلسلة كتب متلاحقة عن ”المرض الأصولي” الذي أصاب الإسلام وأصبح بحجم العالم. وأعتقد أن هذا ما سيبقى منه في نهاية المطاف دون أن يعني ذلك التقليل من جوانبه الأخرى. فقد كان أديبا شاعرا أيضا. وهذا يعني أنه جمع في شخصه بين الإبداع الأدبي والإبداع الفكري. من هذه الناحية فهو سليل شخصيات كبرى من أمثال ابن عربي ودانتي والمعري والسهروردي.. إلخ، فالفكر الجاف الخشن على طريقة الفلاسفة المحترفين لا يشبع الشحنات الأدبية - الشعرية لديك. لهذا السبب قلت أكثر من مرة، إن عقلي مع كانط، وقلبي مع نيتشه. من يستطيع أن يكتب بعد نيتشه؟ لقد استنفد بلاغيات اللغة الألمانية استنفادا، واعتصرها اعتصارا. أما كانط فكان كاتبا عاديا، وربما أقل من عادي، ولكنه كان مفكرا عملاقا. ”نقد العقل الخالص” يبقى واحدا من أربعة أو خمسة كتب في تاريخ الفلسفة كلها. لأوضح الأمور أكثر: أنا لست مع استئصال الدين على طريقة نيتشه، وإنما مع عقلنة الدين على طريقة كانط. وأتمنى أن تنجح المصالحة في تونس والعالم العربي كله بين أقطاب التيار العلماني وأقطاب التيار الإسلامي المثقف المستنير. فالإسلام هو أساس ثقافتنا وشخصيتنا التاريخية. والخلاف ليس عليه أبدا، وإنما على طريقة تفسيره وتأويله. فهناك تفسير واسع منفتح، وتفسير ضيق منغلق. هناك الحنابلة، هناك ابن سينا، وهناك الغزالي، هناك ابن عربي، وهناك ابن تيمية، هناك أحمد أمين.. إلخ. وهناك حسن البنا.
وفي هذا الصدد ينبغي العلم بأن عبد الوهاب المؤدب كان يستمتع كثيرا بتعريف الجمهور الفرنسي أو الفرانكوفوني بالصفحات المضيئة من تراثنا العربي الإسلامي الكبير. وكان ذلك من خلال برنامجه الأسبوعي الشهير ”ثقافات الإسلام” المبثوث على أمواج إذاعة ”فرنسا الثقافية”. وهذا ما سيبقى منه أيضا. فلم يتخلَّ عن الجذور العميقة ولم ينسها على الرغم من انصهاره في ”المنفى الباريسي الخلاق”. من يستطيع أن يقاوم فتنة باريس المتجددة كل يوم؟ باريس عاشقة معشوقة، باريس خلقت للعشق والغرام. نقطة على السطر. ولكن يبدو أن الأشياء في طريقها للأفول. ربما كنت أنا آخر عاشق كبير في باريس. عشت أجمل حياة: غرام وانتقام.
أعتقد أن سبب نجاح عبد الوهاب المؤدب يعود إلى نقطتين أساسيتين. الأولى هي أنه كان عاشقا للتنوير العربي والتنوير الفرنسي على حد سواء. لقد انصهر في كلا التنويرين وراح يتحدث بشكل رائع عن كبار الشخصيات الأدبية والصوفية والفلسفية.. وأتخيل أنه كان ينتقل من هذه الضفة إلى تلك باستمتاع لا مثيل له. كان يشعر بأنه غني جدا، لأنه يمتلك لغتين وثقافتين وحضارتين. كان عاشقا ضخما وتائها حقيقيا. ألم يصدر مجلة بعنوان ”متاهات”؟ ولكني أعتقد أنه في قرارة نفسه ظل تونسيا ومغاربيا عربيا بالدرجة الأولى. كان عنده حنين هائل إلى الشرق، وعطش لا يرتوي إلى الجذور. أقول ذلك وأنا أشعر بالحنين إلى المغرب وسحره الخالد. آن لي أن أعود.. والنقطة الثانية هي أنه لم يكن يقدم أي تنازل تكتيكي أو استراتيجي للفكر الأصولي. من هذه الناحية فقد كان تنويريا من الطراز الأول على طريقة فولتير أو حتى نيتشه. ومعلوم أن هذا الأخير أهدى أحد كتبه قائلا: ”إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية”. وهنا أصل إلى بيت القصيد.
كان عبد الوهاب المؤدب يريد أن يحرر الروح العربية الإسلامية من ذاتها، من سلاسلها وأغلالها. كان يقول ما معناه: نحن نقف على عتبة القطيعة التراثية الكبرى؛ فإما أن نقتحمها، وإما أن ننكص على أعقابنا صاغرين. ينبغي أن نقطع ”حبل السرة” مع الفقه التكفيري القديم، الذي أصبح عالة علينا ويسبب لنا مشكلة مع العالم كله. ينبغي أن نتجرأ على ذلك مثلما فعل فلاسفة أوروبا مع انغلاقاتهم التراثية المسيحية. فقد كانت عزيزة على قلوبهم أيضا. وعلى أنقاض ذلك سوف ينهض فقه تحريري جديد متصالح مع الحداثة والعصر. هذا هو المخاض الانتقالي العسير الذي شخصه عبد الوهاب المؤدب بكل ألمعية واقتدار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.