قدّمت فرقة مسرح البسطة عرضا مسرحيا مميزا بعنوان "الكلمة"، احتضنته ساحة مفتوحة في مدينة عنابة مساء أول أمس، في إطار تنشيط موسم الاصطياف، وسعيا لإعادة المسرح إلى الفضاء العمومي. العرض جاء من رحم مسرح الشارع. وانفتح على المدينة وجمهورها بروح فنية متجددة تلامس الواقع، وتخاطب الوعي الجمعي من موقع الكلمة، ومآلاتها. وبنصّ كتبه المسرحي شمالي مبارك، ومقترح إخراجي من توقيع ماسينيسا قبايلي، حمل العرض طابعا تجريبيا يشتغل على الأداء الجسدي، ولغة الشارع، والصوت الحي، لينسج تجربة مسرحية فريدة لا تعترف بالخلفية والجدار والخشبة، بل تختار الهواء الطلق مسرحا، والجمهور العابر جمهورا حيّا ومشاركا في الفعل المسرحي. «الكلمة" في هذا العرض، لم تكن، فقط، موضوعا دراميا، بل كانت شخصية حاضرة، تُطارَد، وتُحاصَر، وتُمنَع، وتُبعَث من جديد، في سلسلة رمزية عكست مأساة حرية التعبير في واقع معاصر، تهيمن عليه الرقابة، والخذلان، والخذلان الذاتي. وبأداء جماعي شارك فيه كل من لجدل إسلام بدر الدين، وبلباي إبراهيم، وأحمد محمد سعد، وماسينيسا قبايلي، ومحمد طويري، انسكب النص على الأجساد، وتحولت الأصوات إلى صرخات صامتة، تعبّر عن القهر الكامن والمكبوت داخل المجتمعات. وجاء العرض ليؤكد أن مسرح الشارع لايزال أداة فنية قوية حين يحمل رسالة، وحين يتقاطع مع هموم الناس اليومية. وكان حضور الكلمة في قلب عنابة القادِمة من الجلفة، بمثابة رسالة رمزية، عبَرت بها الفرقة حدود الجغرافيا لتقول إن الكلمة الصادقة لا تعرف الحدود، وإن الفنّ حين يُخلَص له يجد دائما طريقه إلى الوجدان. عنابة في تلك الأمسية لم تكن فقط مدينة مضيفة، بل كانت مدينة مُنصتة. استقبلت العرض بجمهور متنوع، تفاعل، وضحك، وصمت، وابتسم على وقع نصّ يحرّض على التفكير، ويُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وصوته، بين المجتمع وكلمته، بين الفرد وخوفه. «الكلمة" تجربة مسرحية تحفر في الذاكرة، لأنّها لم تبحث عن الزخرفة، بل عن الصدق. ولأنها جاءت من الجلفة، من عمق الجزائر، حاملة حرارة المسافة، وصدق النيّة، وجرأة الطرح، كان لها في عنابة صدى خاص، يعيد تأكيد حاجة المدن إلى فنّ الشارع، وإلى الكلمة... متى قيلت بشجاعة.