جاء في الحكمة : ”شر الاخوان من تكلّف له”. يجمع المؤرخون على أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كان بسيطاً في حياته بعيداً عن التكلف، بسيطاً في ملبسه لكنه نظيف الثوب يفوح منه عطراً وطيباً؛ لقد كانت البساطة تشكل ركناً أساسياً في حياته صلى الله عليه وآله. وفي حياتنا اليومية كثيراً ما نلتقي بأشخاص مرنين، أينما حلوا وأينما جلسوا يأنَسون ويؤنسون، يألفون ويؤلفون، ينبسطون مع من حولهم، لا تشعر أنهم غرباء، لا تحس بفوقية في سلوكهم، ولا انزواءٍ في تصرفاتهم، يتصرفون على سجيتهم في أدب وتواضع. وهناك في المقابل فريق من الناس قد ربطوا أنفسهم بعادات وقيّدوها بتقاليد وإذا هم يعيشون في قفص رهيب، فهناك ألف قيد وقيد في طريقة تناول الطعام وألف قيد وقيد في ارتداء الثياب وآلاف القيود في المعاشرة واستقبال الضيوف وإقامة الأعراس والسفر حتى لتتحول حياتهم إلى مجرد أعباء لا تطاق، فهم يتحركون كالدمى ويتحولون إلى موجودات ورقية أو زجاجية تتحرك وفق آلاف القيود المصنوعة؛ حديثهم تكلف، طريقة مشيهم متصنعة، يتصنعون في ارتداء ثيابهم، يتكلفون في استقبال ضيوفهم، ينهضون بتكلف ويجلسون بتكلف، وبعبارة واحدة إن حياتهم تكلف في تكلف وتصنع في تصنع، وأمثال هؤلاء هم أبعد الناس عن كسب قلوب من حولهم ، وقد نهى الشرع الحنيف عن التكلف والتصنع وإظهار الإنسان وجها آخر غير حقيقته، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهينا عن التكلف) رواه البخاري. وقال الله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). قال السعدي: أن أدعي أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إليَّ. وعن أسماء رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ”المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور” متفق عليه. قال النووي رحمه الله تعالى: المتشبع: هو الذي يظهر الشبع وليس بشبعان، ومعناها هنا أنه يظهر أنه حصل له فضيلة وليست حاصلة ولابس ثوبي زور أي: ذي زور وهو الذي يزور على الناس بأن يتزي بزي أهل الزهد أو العلم أو الثروة ليغتر به الناس وليس هو بتلك الصفة وقيل غير ذلك والله أعلم. إن من سمات الصالحين أنهم لا يقولون ولا يفعلون ولا يتصفون بشيء ليس له حقيقةً راسخة في قلوبهم، فلا يظهرون للناس صالح أفعالهم ويخفون قبيحها، و لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسترون أحوالهم وينصحون بترك التصنع. صور من التصنع: نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شاب نكس رأسه، فقال: يا هذا ارفع رأسك؛ فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب؛ فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق. عن كهمس بن الحسن: أن رجلاً تنفس عند عمر كأنه يتحازن فلكزه عمر ” أو قال: فلكمه”. الرياء من التصنع: الرياء الأصغر ومثاله التصنع للمخلوق وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة أخرى. ومن صور التصنع ما يحدث في حفلات الزواج وغيرها من تكلف في الملابس وغيره حتى إنه في بعض المجتمعات إذا حضرت المرأة حفلا بفستان وأقيم حفل آخر في نفس الأسبوع فإن من الطقوس أن تشتري فستانا آخر ؛ إذ من العيب أن تلبس نفس الفستان مرتين، فهل هذا إلا الإسراف والتكلف؟!!. إن التكلف والتقيد إنما ينجم عن انعدام في الشخصية فالبعض من الناس يعانون من إحساس بالحقارة يدفعهم إلى إثبات وجودهم بهذا السلوك. إن مثل هؤلاء الأفراد يحاولون توجيه الأنظار إليهم عن طريق هذه التصرّفات. إن من يتمتع بمقام علمي فإن شخصيته العلمية هذه لا ترى ضرورة للتظاهر، وعلى العكس فإن من يعاني من إحساس بالتخلف يحاول عن طريق الألقاب والعناوين التظاهر بالأهمية وعلى العموم فإن العمل والنشاط والإيجابية تتناقض مع التصنع والتكلف والغرور والخضوع للعادات الفارغة. إن التكلف والتصنع يهدر الكثير من الوقت ويستهلك الفكر والخيال ويجلب الضجر والملل. إن المجتمع الذي يسعى أن يكون فعالاً نشطاً متفوقاً ينبغي عليه أولاً أن يتخفف من أعباء التكلف لكي يتحرك نحو الأمام. أخيرا أيها الأحبة لنتذكر أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية وهو يعلم السر وأخفى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)) (سورة الأنفال). وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)) ( سورة غافر). وقد كان الصالحون يقولون ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية. وصدق زهير: ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ وإنْ خَالَها تَخْفي على الناس تُعْلَمِ. إذا علم العبد هذه الحقيقة فإنه سيبتعد عن التصنع للمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو أي معنى من هذه المعاني، سوى التقرب إلى الله، ولنتذكر وقوفنا بين يدي الله يوم القيامة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)) (سورة الطارق).