* منهجه وطريقته في التدوين إتبع عمر بن عبد العزيز: في جمع الحديث النبوي وتدوينه منهجًا سديدًا قويمًا، ووضع فيه شروطًا صارمة، ويتجلَّى ذلك في أربعة أمور: - الأول: حُسْنُ اختياره للقائمين بهذا الأمر: فقد إختار له إبن حزم، والزهري: فأمّا أبو بكر بن حزم فهو أحد أوعية العلم، ومن أعلام عصره، قال فيه الإمام مالك: (ما رأيت مثلَ ابن حزمٍ أعظم مروءةً ولا أتم حالاً، ولا رأيت من أُوتِيَ مثل ما أوتي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم)، وقال: (كان رجل صدق، كثير الحديث)، وقال إبن سعد: (كان ثقة عالمًا كثير الحديث) توفي سنة (120ه). وأما إبن شهاب الزهري فهو الإمام العلم، حافظ زمانه، وشهرته ملأت الآفاق: قال فيه الليث بن سعد: (ما رأيت عالمًا قطُّ أجمع من ابن شهاب: يحدِّث في الترغيب والترهيب؛ فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن القرآن والسنة، كان حديثه). وقال عمر بن عبد العزيز: (عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحدٌ أعلم بسُنَّةٍ ماضية منه)، وقيل لمكحول: (مَنْ أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب. قال: ثم من؟ قال: ابن شهاب). - الثاني: أنه طلب ممن يدون له السُّنة جمع الأحاديث مطلقًا وتدوينها، وتتبع أحاديث أناس مخصوصين لما إمتازوا به، وتدوين أحاديث معينة لأهميتها، فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث عَمرة بنت الرحمن لأنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة، والسيدة عائشة هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشئونه الخاصة داخل بيته ومع أهله. وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع وتدوين حديث عمر بن الخطاب، وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة الفاروق، وأقضيته وسياسته في الصدقات، وكتبه إلى عماله فيها، وقد طلب عمر ذلك أيضًا من سالم بن عبد الله بن عمر، وكل ذلك واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في الإقتداء بجده رضي الله عنه. - الثالث: أنه ألزم مَن يُدوِّن السنة النبوية أن يميز الصحيح من السقيم، ويتحرَّى الثابت من الحديث، وذلك واضح في رواية الدارمي، حيث يقول عمر لإبن حزم: (أكتُبْ إلى بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحديث عمر). وعند الإمام أحمد: (أكتب إلى من الحديث بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث عَمْرة). وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تأسيس منهج التدوين على أسسٍ راسخة، ثابتة صحيحة. - الرابع: تَثَبُّته شخصيًا من صحة الحديث والتحديث: فعمر من كبار العلماء، وليس بأقل شأنًا من العلم ممَّن أمرهم بالتدوين، لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه، زيادةً في التثبت؛ من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال: (رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء ليس العمل عليه، قال: هذه زيادة ليس العمل عليها). * ثمرة هذا التدوين لقد آتَتْ هذه الجهود الباكرة المباركة أُكُلَها، وتمثَّل ذلك بتلك الدفاتر التي جمعها الإمام الزهري، فأمر عمر بن عبد العزيز بنسخها عدَّة نسخ، ثم أرسل إلى كل بلد في دولته الكبيرة دفترًا منها. ويُلاحَظ أن كثيرًا من العلماء جمع لنفسه مسموعاته، ليعود إليها كلَّما وجد في نفسه الحاجة إلى إتقان حفظها، أما التدوين الرسمي، الذي تولَّته الدولة، وعُمِّمَت ثمرتُه على الأمصار، فكان بأمر عمر بن عبد العزيز. ومن الثمرات الطيبة -أيضًا- ذلك المنهج السديد الذي اتبعه أمير المؤمنين عمر، بوضع الأسس والنقاط المهمة أثناء التدوين، فكانت نواة لمنهج واسع متكامل جاء بعده. وهذا كله ناتج من دِقَّة فهمه، وغزارة علمه، ونفاذ بصيرته وقبل ذلك وبعده توفيق الله تعالى له. ولئن كان عمر بن الخطاب قد أشار على الصِّدِّيق بجمع القرآن، ففعل، فكان لهما الفضل الكبير على الأئمة، ثم جاء عثمان فجمع الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، ولهجة واحدة هي لهجة قريش، فإن الله تعالى قد ادَّخر لعمر بن عبد العزيز تلك المنقبة العظيمة، والمكرمة الجليلة، في إصدار أوامر الخلافة بجمع السنة وتنقيحها وتدوينها، وجعل من واجبات الدولة حماية السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع. وهي سُنَّة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فلولا التدوين لضاع الكثير من الحديث النبوي، خاصة في العصور المتأخرة، بعد أن قلَّ الحفظ والرواية والسماع، بل حتى الاهتمام بالحديث الشريف. ولِعُمَر بذلك مِنَّةٌ عظيمة على الأمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهذا من توفيق الله للعظماء وكبار المصلحين، عندما تخلُص سرائرهم، يوفقهم الله للحق، ويدلهم على الخيرات، ويسدد خطواتهم ويهيئ لهم من أمرهم رشدًا. * نشره للعلم في الأمصار لما كان (من واجبات الدولة أن تُسهِّل تحصيل العلم لجميع القادرين على تحصيله، وهو من فروض الكفايات التي يجب على الدولة القيام به، وتمكين الناس من الوصول إليه)، لم يألُ عمر جهدًا في القيام بهذا العبء خير قيام، وأداء هذا الواجب على الوجه الأكمل، فأرسل العلماء إلى الأمصار بل والبوادي، ليعلموا أهلها شرع الله، ويفقهوهم به. فبعث إلى مصر الإمام المفتي الثبت، عالم المدينة نافعًا مولى ابن عمر وراويته؛ قال عبيد الله بن عمر: (بعث عُمر بن عبد العزيز نافعًا مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلمهم السنن). وأرسل عشرة من فقهاء مصر من رجال التابعين إلى إفريقيا ليفقهوا أهلها ويعلموهم، وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالهم من الخير مثل الذي يَعُمُّ إخوانهم من أهل الحجاز والشام والعراق، وكانت معاقل العلم، فلم يحتج عمر أن يسير لها العلماء، بل تطلَّع إلى أقاصي دولته، فأرسل العلماء إليها، بل إنه أرسل الفقهاء إلى البدو ليعلموا الناس في مضاربهم ويفقهوهم في دينهم؛ روى ابن الجوزي عن ابن أبي غيلان قال: (بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقًا...). كذلك كان يرسل الكتب إلى الأمصار الإسلامية في دولته الكبيرة، يعلمهم فيها السنن والفقه، ويأمرهم بإحياء ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، والإلتزام بالشرع، وترك ما خالفه، وكانت الكتب تُوَجَّه إلى الولاة والأمراء ليعملوا بها، ويحملوا الناس على التزام ما جاء فيها، وإذا أُشكِلَ على عمر أمرٌ بعث إلى المدينة يسألهم عن ذلك؛ يقول الإمام مالك: (كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عمّا مضى، وأن يعملوا بما عندهم)، ويقول الحسن البصري: (وما ورد علينا قَطُّ كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة، أو إماتة بدعة، أو رد مظلمة). وقد أمر: بإفشاء العلم، وذمِّ كتمانه، وذلك واضح في كتابه إلى أبي بكر بن حزم: (ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا). وقد عمل: على تذليل الصعوبات أمام العلماء وطلبة العلم؛ ففرض المرتبات للعلماء، ولكلِّ مَنْ نَصَبَ نفسه للعلم وحبسها عليه؛ فقارئ القرآن الذي حفظه، وقام يُقرِئه للناس، ويُعلِّمهم أحكامه، والمحدِّث الذي يعقد مجالس الإملاء وينشر الحديث النبوي، والفقيه الذي ينظر في الكتب ويستنبط منها، ويعلِّم الناس أمور دينهم ليعبدوا الله على بصيرة، والطالب الذي يتفرغ للعلم أو البحث والدرس، كل أولئك قد يشغلهم أمر ذويهم وأبنائهم، وسدُّ حاجاتهم، وتدبير أمور معاشهم، فقام عمر بقطع هذا الهاجس عنهم، وكفل لهم ولمن يعولون ما يعيشون به حياة كريمة، تتكفَّل به الدولة، ويُؤخَذ من بيت المال، ونعمّا فعل، فبذلك شجع كلَّ مَن وجد في نفسه الإمكانية لنشر العلم وخدمة الدين والأمة. روى الإمام الثقة الحجة الخطيب البغدادي عن أبي بكر بن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: (مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يغنيهم؛ لئلاّ يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن، وما حملوا من الأحاديث). * إهتمامه بتعليم أولاده لم يقتصر اهتمام عمر بن عبد العزيز بالعلم على هذا القدر -على عِظَمِ شأنه- ولكنه كان نموذجًا مثاليا في تربية أبنائه على العلم، وحُبِّ العلماء وتوقيرهم، واتبع إجراءاتٍ تعليمية جعل منها منهجًا جديرًا يلبي حاجة الناشئ المسلم، وكان يغرس في أبنائه حب العلم منذ الصغر، ويتعاهدهم بالرعاية والعناية، فها هو: يعلِّم ابنه عبد الملك مُذْ أصبح يجيد الكلام القراءة وبعض القرآن، قبل أن يدفع به للمعلمين، ويقول له ابن عمه في ذلك: دعه يلعب مع الصبيان، فما زال طفلاً، فأخذ عمر بيده وقال له: (يا بُنَيَّ كُنْ عالمًا، فإن لم تستطع فمتعلمًا). ولما إطمأنَّ إلى أنَّ بنيه قد أخذوا حظهم من التربية المستقيمة في بيت الأبوة القويمة العليمة، وأُسِّسَتْ أخلاقُهم على التقوى، وتشرَّبت نفوسُهم حبَّ العلم والتعلُّم، اختار لهم مؤدِّبًا عالمًا تقيًا، بعث به إليهم، وأرسل إليه رسالة يحدد له فيها الطريقة المثلى للتأديب فقال له: (فإني قد اخترتك على علمٍ منِّي بك، لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من موالي وذَوِيَّ الخاصة بي، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج للرمي...). وظلَّ: يتابع أبناءه ويتعهَّدهم بالرعاية، ويُسدِّد خطاهم ويوجههم، فكتب إلى أحد أبنائه يقول: (يا بُني احذر الصرعة على الغفلة، حين لا تستجاب الدعوة، ولا سبيل إلى الرجعة، ولا تغترنَّ بطول العافية، فإنما هو أجل ليس دونه فناء، ولا بعد أن تستكمله بقاء). وقال لإبنه عبد العزيز: (يا بُني إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم، فلا تحملها على شيء من الشر، ما وجدت لها محملاً على الخير). وبلغه أن إبنًا له اتخذ خاتمًا، واشترى له فصًا بألف درهم، فكتب إليه عمر قائلاً: (أما بعدُ، فقد بلغني أنك إشتريت فصًا بألف درهم، فبعه، وأشبِع به ألف جائع، وإتّخذ خاتمًا من حديد، وأكْتُبْ عليه: (رحم الله إمرءًا عرف قدر نفسه). رحم الله عمر بن عبد العزيز، كان طودًا من أطواد العلم، ونبراسًا لمن جاء بعده، فجزاه الله عن الأمة خير الجزاء.