تنجح السلطات الأمنية الإسرئيلية في صنع الحدث بين الحين والآخر من خلال صدور الصحافة العالمية بأخبار غير تلك المتعلقة بالإبداع في تقتيل الشعب الفلسطيني، حيث أنها كثيرا ما تتخذ من الآراء الحرة هدفا لهجماتها، آخرها تلك التي تعرض لها المثقف الأمريكي، عالم اللسانيات ناعوم تشومسكي، الذي وجد نفسه مضطرا للعودة على أعقابه بعدما رفضت السلطات الأمنية الإسرائيلية منحه تأشيرة الدخول لمدة أسبوع، وهي المدة التي تعهد المثقف الأمريكي بقضائها بين إسرئيل أراضي السلطة الفلسطينية ·· فقد كان من المقرر أن ينتقل تشومسكي بين عدد من جامعات المنطقة لإلقاء محاضرات بدعوة من مثقفين من جامعة بير الزيت، غير أن بيانا من وزارة الخارجية الإسرئيلية منعه من الإلتزام بوعده، حسبما ورد في البيان: ؛لعدة أسباب دون ذكر واحدة منها'' ·· في حين راح أعضاء من حزب كاديما المتطرف ينصحون المثقف الأمريكي باستعمال الأنفاق الفلسطينية لدخول الأراضي المحتلة ما دام مهتما بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني· هذا الموقف يوضح، بشكل لا يدع مجالا الشك، أساليب الكيان الصهيوني في التعامل مع كل من يجرؤ على إبداء أي وجهة نظر مخالفة له ·· نعوم تشومسكي ندد بعد خروجه من مطار بن غوريون بالأسلوب التهديدي والمهين الذي تعرض له على يد عناصر الأمن الإسرائيلي وهو الذي جاوز العقد الثامن من العمر، غير أن هذه المعاملة السيئة لواحد من أهم المفكرين في القرن الحالي لم تجد آذانا صاغية لدى من يعتبرون أنفسهم مثقفي العالم· في الوقت الذي تعالت فيه ذات الأصوات للتنديد بما أسمته بضراوة العدالة الأمريكية في قضية المخرج الفرنسي الجنسية رومان بولانسكي، مع الفارق الكبير بين ما تعرض له تشومسكي من مهانة واعتداء على حقه في التنقل الحر والتعبير الحر، وهي حريات لصيقة بحرية التفكير، بل هي جوهر المثقف، ضمير الانسانية، الأمر الذي يجعل أي مثقف عبر العالم يدافع عنها، غير أن مثقفي العالم على غرار بيرنار هنري ليفي، الفرنسي الذي نصب نفسه مدافعا استثنائيا، لم يحرك ساكنا في قضية تشومسكي في حين أنه أقام الدنيا ولم يقعدها حين تعلق الأمر بالدفاع عن بولانسكي· ولمن لا يعلم بقضية بولانسكي، نذكره بأن العدالة الأمريكية تطالب بمثوله أمامها لمتابعته في قضية تعود لعقود خلت إتهم فيها باغتصاب طفلة قاصر· ومع أن الدلائل كلها تجمع على قيام المخرج الفرنسي الجنسية بهذا الجرم، إلا أن ثلة ممن ينتمون لعالم الثقافة بشكل أو بآخر نصبوا أنفسهم مدافعين عن هذا المخرج، وبالتالي عن هذا الجرم المخل بكل قواعد الانسانية· والحال أن المثقفين الذين بات الإعلام يروج لهم أكثر ما يتوج أعمالهم باتوا يقيسون الأمور بميزان مختلف يثقل كفة الجهة التي تتماشى مع طروحاتهم، المؤسف أنهم باتوا يسعون لإقناع الرأي العام بأن وجهة نظرهم هي الأصح والمؤلم، أنهم في نهاية المطاف مثقفون ولا يعرفون معنى الخطأ ·· غير أنه بين الحين والآخر تأتي أحداث مثل تلك التي تعرض لها تشومسكي، وهو المفكر الذي لا يختلف على مكانته إثنان، لتكشف لنا زيف المثقفين وضرورة التحلي بالروح النقدية والعمل على تجميع وتمحيص الأحداث لتشكيل وجهة نظر مستقلة بعيدة عن أي تأثير، فنحن في عالم التلاعب بالأفكار بامتياز، عالم لم يعد فيه هدف وسائل الإعلام الإخبار بقدر ما تحول للدعاية وخدمة المصالح·