عمار بلحسن انطفأ مع بداية تسعينيات القرن العشرين في زمن تساقط فيه الكتّاب والمفكرون والفنانون الواحد تلو الآخر، بفعل الرصاص زمن الأزمة الدموية التي عصفت بالبلاد أكثر من عشر سنوات، لكنه مات بطريقة مختلفة عن زملائه· لقد رحل إلى عالم آخر، واستسلم للسرطان الذي قاومه ببسالة وهو يغالب الألم بالكتابة الشجاعة وخلّف لنا كتاب ''يوميات الوجع'' الذي أعيد طبعه أكثر من مرة، وفيه محاورة مؤلمة بين ذات كاتبة مبدعة ومرض خبيث، ورغم أن المرض تمكن من صاحبه إلا أن عمار يكون قد تغلب على السرطان لأنه ترك أثرا لا يمكن لأي سرطان أن يقتله، وهو تلك الوثيقة الأدبية الفكرية القاسية، التي صورت الروح في أصفى تجلياتها، والمرض يطهرها بشكل كلي، وتزداد قيمة ذلك الأثر النادر إذا علمنا أن كاتبه هو في الأصل فنان من طراز نادر، كتب القصة القصيرة في زمن الخطابات الإيديولوجية والبيانات السياسوية الرعناء، ولم يتلطخ قلمه بما تلطخ به الكثير من مجايليه الذين ماتوا أدبيا رغم أنهم استمروا بعده ''إكلينيكيا'' مدة طويلة من الزمن، وشتان بين كاتب حي حتى ولو فارق الحياة جسديا، وكاتب ميت حتى ولو بقي جسديا بين الناس· ''تباً لك يا وطني··· بلاد الألم العريض·· لم يعرف فنانوك وشرفاؤك سوى الاغتيال أو الموت بالسرطان وحيدون في مستشفيات نتنة، معزولون إلا من حنينهم وآهاتهم''، ذلكم هو مقطع من كتاب ''يوميات الوجع'' التي دوّنها القاص والسوسيولوجي عمار بلحسن الذي رحل عنا في قمة نضجه، متأثرا بأوجاع السرطان وهو في سن الأنبياء، عمار بلحسن ذلك القاص الجميل، والصوت النشاز (بالمفهوم الإيجابي)، في المشهد السبعيني الغارق في الإيديولوجيا بمفهومها النضالاتي المسطح، والمفرغ من أي محتوى جمالي، وقد رحل ذلك المبدع في أحلك أيام البلاد عندما بدأت آلة الموت تحصد عشرات الأرواح، وتمكن منه المرض الخبيث يوم 29 أوت ,1993 لكنه قبل ذلك تمكن من مقاومة الأوجاع بالأدوية المسكنة، وأتم كتابة ''يوميات الوجع'' التي صدرت بعد موته عن منشورات التبيين للجاحظية، ثم عن منشورات anep في السنوات الأخيرة· وكانت قطرات المصل الموصولة بذراعه تسقط، وتكبر مع الأيام لتتحول إلى ما يشبه قطرة ماء المستخدمة في التعذيب، ويستعيد مشاهد من ضحايا المرض من الأصدقاء، ونستعيد تلك المشاهد من خلال يوميات وجع عمار: ''كاليغرافيا'' للصديق الرسام محمد خدة (توفي بالمرض اللعين 1991) ثم ''كلمات للأخ والصديق طالب عبد الرحيم'' (توفي في باريس في أفريل بالمرض)، ثم ''وردة لروح الصديق جليد أمحمد'' (شاعر ورسام··· وصديق توفي بالداء الخبيث 1991)، ولا تتوقف القائمة عند هؤلاء الأقربين لتضم أشباهه في محنة المرض من الفنانين العالميين المعروفين، وربما كانت القائمة ستطول لو أمهل المرض عمار أياما وربما أشهرا أضافية، لكن الساعة توقفت في نهاية أوت ,1993 ومعها اكتملت تلك التجربة الإنسانية والإبداعية الفريدة التي خلّفت ثلاث مجموعات قصصية قمة في التفرد، متجاوزة لما سبقها، وحية باستمرار إلى درجة ورّطت أصحاب النصوص القصصية الذين جاءوا بعده·