المقاتلات الفرنسية هي أول من فتح النار تطبيقا للقرار 1973 المتعلق بفرض حظر جوي على ليبيا· ولكن سرعان ما دخلت الولاياتالمتحدة مسرح العمليات بإطلاق عدد كبير من صواريخ ''طوماهاوك'' التكتيكية· وهي صواريخ باهظة التكلفة لا تستعمل إلا في الحالات القصوى· وكان هدفها شل مواقع الرادارات الليبية ومنصات الصواريخ المضادة للطائرات· من جهتها، تحركت مجموعات أخرى من الطائرات القادمة من مناطق متعددة لتحتل مواقعها في أقرب القواعد العسكرية الأوروبية إلى ليبيا، وأكثرها تابعة لحلف شمالي الأطلسي (الناتو)· وبسرعة عرفنا أن الاسم الرمزي للعملية هو ''فجر الأوديسا''، وهو من اختيار أمريكي، بينما أطلق الفرنسيون على عملياتهم اسم ''ميسترال الجنوب''، واختار البريطانيون اسم ''عملية إيلامي''· وعرفنا أيضا، وهذا هو الأهم، أن هذه العملية العسكرية على ليبيا، بقيادة أمريكية· القيادة الأمريكية للعمليات، صواريخ الطوماهاوك وكروز، استعمال قواعد الحلف الأطلسي تدل على شيئين: الأول: دور أمريكي أساسي يكذب التصريحات الأمريكية نفسها، ويكذب ترددهم، ويقربنا أكثر من الشك في أهدافهم ونواياهم· والثاني: دور فعلي للحلف الأطلسي على عكس ما أشيع، ويعطي التخوفات الروسية مصداقية أكثر· وبصفة عامة، فإن ضربات اليوم الأول تتجاوز مسألة الحظر الجوي إلى حرب حقيقية على قوات العقيد معمر القذافي· ولنتذكر أن الأمريكيين قالوا، منذ اليوم الأول، إن الحظر الجوي يقتضي عمليات عسكرية تستهدف الدفاعات الأرضية للقذافي· بل ذهبوا إلى أن فرض حظر جوي لا معنى له إلا إذا تجاوزه إلى هجوم شامل على ليبيا· وعندما نستمع إلى التصريحات الأمريكية والفرنسية والبريطانية نراهم ينفون نيتهم في نشر قوات برية نفيا قاطعا· ولكن الأهداف التي سطروها تبقي الباب مفتوحا على الاحتمالات· من أهدافهم: وقف كل العمليات التي يقوم بها القذافي ضد المتمردين· تمكين الشعب الليبي من التعبير عن آرائه بكل حرية، ومنها حريته في اختيار حكامه· وما الذي تعنيه هذه الأهداف لمعمر القذافي غير الانسحاب والتنحي من السلطة؟ وأكثر الذين استمعنا إليهم من المسؤولين الغربيين ومن محللي القنوات التلفزيونية مقتنعين بأن العقيد القذافي سيتملكه الرعب والخوف وأنه سينسحب مع بداية العمليات العسكرية الغربية· ونفهم من هنا أن تصريحاتهم مبنية على هذه التوقعات: إنهاء المعركة بسرعة· ولكن الواقع على الأرض يكذب هذه التوقعات: يكذبها أولا الأعداد الهائلة من الطائرات التي تشارك في العملية· ويكذبها ثانيا إصرار القذافي على مواصلة القتال· ما هي أوراق القذافي؟ لا مجال للمقارنة بين القوة النارية للحلفاء وبين الإمكانات القتالية لكتائب العقيد· فالفرق كبير جدا بين الأسلحة القديمة التي يملكها (باستثناء عدد من الصواريخ أرض جو وبعض طائرات الميراج) وبين أسلحة الحلفاء الأكثر تطورا في العالم· ولكن للقذافي مجموعة أخرى من الأوراق يستطيع من خلالها إطالة عمر الحرب إلى سنوات عديدة: منها مواصلة هجماته على الثوار بطريقة أو بأخرى، ومنها اعتماده على دروع بشرية الهدف منها إيقاع الحلفاء في أخطاء عسكرية تستهدف مدنيين· وفعلا فقد بدأ التلفزيون الليبي ينقل صورا يقول إنها لضحايا مدنيين استهدفتهم الغارات الفرنسية (التلفزيون الليبي يتكلم عن عشرات القتلى والجرحى)· ومنها محاولة القذافي تحويل الموقف إلى حرب يقودها ضد الصليبيين، ويأمل أن تجلب إليه بعض التعاطف داخل ليبيا وداخل المجتمعات العربية والإسلامية، تماما كما فعل صدام حسين· ومنا، أخيرا وليس آخرا، التهديد بتوسيع رقعة الحرب إلى كل منطقة البحر الأبيض المتوسط· والغربيون يعرفون ما للقذافي من قدرات على استعمال المرتزقة، وما فعله من تمويل العديد من الجماعات المسلحة عبر العالم، ولا تزال حادثة لوكيربي أكثر من حية في أذهان الغربيين· كما أنهم يعرفون القدرة المالية التي يتمتع بها الرجل· وتقول بعض المصادر إن أمولا طائلة لا تزال مخبئة في صناديق باب العزيزية· وعملية الاختطاف التي وقعت في ميناء طرابلس مؤشر على ذلك، ويمكن أن يضاف إليها المراسلون الأجانب· وليس من شأن هذه الأمور، بطبيعة الحال، تمكين القذافي من نصر عسكري ولكنها تفيده كثيرا في إطالة عمر الحرب وتوسيع دائرتها والزيادة في نفقاتها إلى أن ينفد صبر الحلفاء وقد يلجأون إلى مغامرة أخرى: الهجوم البري· ولنلاحظ، كما قلنا من قبل، أن القذافي يسبح في مناخ دولي لا يعاديه معاداة تامة· بل هناك من الدول من أعلن صراحة وقوفه إلى جانبه ومنها على سبيل المثال فينزويلا· وعندما ندقق في الموقف الروسي لا نجده يبعد عن ذلك كثيرا· وقد يؤدي تطور الأحداث إلى تغير جذري في موقف العديد من الدول· وسيظهر ذلك بالخصوص عندما تنكشف الأهداف الحقيقية من وراء هذه الحملة· ذلك أنه قد تكون هناك أهداف تختفي وراء الخطاب الإنساني وتمكين الشعب الليبي من الديمقراطية· والتحاليل التي تصب في هذا الاتجاه كثيرة جدا· المشكلة أن الغرب يحسن الجمع بين المهمات الإنسانية والأهداف الاستعمارية: والديكتاتوريات تخدم هذه الأهداف بكل تأكيد·