قد يحتاج الخطاب السياسي الجزائري الرسمي إلى موضوعية أكثر في كثير من أطروحاته التي يتمَ تسويقها، وإلى التأسيس على الواقع العيني، وإلى جرد دقيق لمعالجة هجرة الأدمغة التي لم تعد ظاهرة عابرة يمكن تجاهل تأثيراتها، بل عادة مكرَسة، وطبيعية، إن لم تكن ضرورة ملحَة لتحقيق الذات في أجواء بحثية أخرى مغايرة، وواقعية، بعيدا عن الجزائر التي تبدو، من منظور بعضهم، أصغر من البحث، أو أكبر منه بحيث تستطيع الاستغناء عن الجهد العقلي وتعويضه بما ينفعها، وفق تصوَر خاص بها في هذه الألفية الجديدة التي سنصبح فيها عبيدا، كما أشار إلى ذلك جورج أورويل. لقد بنيَ الخطاب السياسي الرسمي على التلفيق والوهم وشعارات الوطنية المغشوشة، وعلى إخفاء الإحصائيات المخيفة التي تخص هجرة الإطارات الجزائرية إلى الخارج، دون دراسة الموضوع وفق ما يحتاج إليه من شروط لفهم المعضلة وإيجاد الحلول المناسبة، إن كنَا نرغب حقَا في إيجاد حلول للنزيف الذي سيعصف بالقدرات الوطنية، وباقتصاد البلد ومستقبله. كما أشارت إلى ذلك بعض الإحصائيات التي ذهبت إلى التأكيد بأن الجزائر خسرت قرابة أربعين مليار دولار في العشرين سنة الأخيرة بسبب هذه الهجرة الجماعية للكفاءات الوطنية. أمَا الحديث عن استقطاب الأدمغة، أو استرجاع الكفاءات إلى البلد فيستدعي، على الأقل، أن نطرح مجموعة من الأسئلة المفتاحية، ومنها: لماذا هاجر هؤلاء؟ ولماذا لم يعد إلى البلد أولئك الذين تكوَنوا خارج الجزائر؟ ولماذا رجع بعضهم إلى البلد ثمَ هاجروا من جديد، دون ندم؟ السيد محمد مباركي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي في الدولة الجزائرية، قال قبل أيام قليلة كلاما غاية في الدقة والاحترافية والموضوعية والصدق: " لن تعود الكفاءات الجزائرية من الخارج، لأن لديها محيطا ملائما للبحث لا يمكنها الاستغناء عنه ". تلخص هذه العبارة، رغم ما يبدو عليها من بساطة، مأساة البحث في الجمهورية الجزائرية: " المحيط الملائم ". أي أننا لم نسع لتحقيق الأساس بعد واحد وخمسين سنة من الاستقلال. ولا يمكن أن نتصوَر في ظل الوضع الراهن، وفي ظل الممارسات الحالية، و« العقل" المهيمن، أن يتمَ التفكير في المسألة بجدية، ذلك أن البحث، بمفهومه العالمي، يبدو أمرا مستعصيا، مقارنة بتوفير المناخ المناسب للرقص، وللسطو على الشركات الوطنية، ولزرع أحزاب سياسية لا تنطبق عليها التسمية بالنظر إلى محدوديتها وعدم قدرتها على فهم نفسها. ذاك هو الواقع، كما يجب تناوله. هذه الكفاءات، أو الأدمغة ذات المستوى العالي موزعة ما بين فرنسا وبريطانيا والولاياتالمتحدة وكندا واليابان و بعض الدول الخليجية: العربية السعودية، قطر، الإمارات العربية المتحدة. للعلم فإن بعض الإحصائيات تشير إلى هجرة ثلاثين ألف إطار إلى الخارج في مدة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات، في حين بلغ العدد الإجمالي مئة ألف منذ بداية ما سمي بالعشرية السوداء، أو المأساة الوطنية، بتعبير آخر. وهو عدد كارثي، لا يمكن عدم التنبيه إليه من حيث إنه يستدعي تكوين وزارة خاصة به، أي وزارة هجرة الأدمغة، وهي وزارة ضرورية. ويكفي، لفهم ما يحدث، الإشارة إلى أن عدد الأطباء الذين فضلوا فرنسا على الجزائر بلغ ستة آلاف طبيب في الأعوام الأخيرة. وهو أمر لا يحتاج إلى أي تعليق للتدليل على حجم الخسارة الفادحة التي تتكبدها البلاد بسبب إعلاء شأن ما لا يفيد، وإهمال الجوهر.. وإذا كان الساسة وأصحاب القرار لا يقدمون تبريرات لهذا الخراب، ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، فإن العلماء والباحثين يبررون ذلك بمجموعة من النقاط التي يعرفها القاصي والداني، ومنها: غياب شروط البحث في الوطن، قلة الدعم أو انتفائه، الأجرة الزهيدة، عدم توفير السكن، أو توفير السكن في الطابق العاشر، وفي حيَ فوضوي لا توجد فيه شبكة عنكبوتية، ضعف المحفزات، تفضيل الخبرة الأجنبية على الخبرة الجزائرية لأسباب لا علاقة لها بالمؤهلات، بقدر ما لها علاقة مباشرة بالصفقات والرشاوى، إضافة إلى انمحاء الحياة الكريمة وانتشار البيروقراطية والفساد والريع على نطاق واسع بحيث يتعذر التأقلم مع محيط فاسد ومناوئ للعقل. للتذكير فإن الحديث عن السكن اللائق، في بعض البلدان النامية، يدخل في باب القضايا البديهية التي لا تطرح للمناقشة ، خاصة عندما يتعلق الأمر بناس يعدَون علماء الأمة ونخبتها، وليس لنا تقديم أمثلة في هذا الشأن، وإذا كان لزاما علينا فعل ذلك، فلنأخذ الإمارات العربية كعينة. طبعا، المسألة لا تتعلق بواردات النفط، كما نزعم خطأ، بل بنوعية التفكير في طريقة توزيع الأموال وصناعة المستقبل، وفي كيفية استثمار هذه الأموال المودعة في البنوك الأجنبية بما يعود بالفائدة على الأمة. أمَا تفضيل الخبرة الأجنبية على القدرات الجزائرية فمسألة تحتاج إلى دراسة وتمحيص، وقد يتدخل في ذلك علم النفس وعلم الاجتماع للكشف عن العقدة التي تلازمنا. والنتيجة؟ الخبراء يحذرون بإلحاح شديد: ستفقد الجزائر في الثلاثين سنة القادمة كل كفاءاتها الوطنية التي ستستقطبها دول عربية وأجنبية تولي أهمية استثنائية للباحثين والعلماء، على غرار ما يحدث حاليا في المنظومة الرؤيوية التي تسم بلدانا صغيرة تميز ما بين السياسي والعلمي، وما بين المرحلي والدائم، وما بين ما يحصَن الأفراد والزمر وما يخدم المجتمع في شموليته، أو ما بين سلطة المال والفساد وبين سلطة البحث العلمي، بمفهومه العلمي، وليس بالمفهوم المتواتر في بعض البلدان التي تعتبر العلم والبحث أمورا زائدة، ومضحكة. الفكرة المطروحة حاليا هي محاولة التعاون مع هذه الإطارات ذات السمعة العالمية، بيد أن السؤال الذي يجب طرحه مجددا هو التالي: هل نحن مستعدون فعلا لتوفير المحيط الملائم؟ يبدو هذا الأمر غاية في العبث، شيئا سرياليا لا يمكن تحيينه إطلاقا، ما عدا في حالة قلب نموذج التفكير جذريا، وهو أمر لا يخدم فئات كثيرة لها مصالحها في الريع والصفقات والعقود و الأسفار والسياحة. ثمَ إن هناك عاملا آخر يتمثل في وحش البيروقراطية، بحضورها اللافت، وهو وجه شائن يتنافى مع أيَ مبادرة من شأنها استقطاب هؤلاء، من أجل التعاون فحسب، وليس من أجل العودة إلى البلد بشكل نهائي. لأنَ العودة، كما صرَح أحد هؤلاء المهاجرين، أو المهجَرين، هي بمثابة انتحار حقيقي. يبدو التعاون، في السياق الحالي، مجرَد فكرة طوباوية، ما عدا إن انتحرت المؤسسات والجهات المعنية، لأن توفير المحيط الملائم يستدعي التنازل عن المكاسب الحالية والمستقبلية، وعلى جزء مهمَ من طموحاتنا غير الشرعية كمسؤولين غير مؤهلين علميا وسياسيا لتأطير علماء يبدون خارج كوكبنا. لا يمكن التعامل مع هؤلاء بهذه " العقلية الصغيرة " غير المؤهلة لتكوين جملة أو رسم إبرة. المشكلة في منظومة تسيير برمَتها. لذلك يصبح التفاؤل باستقطاب هؤلاء ضربا من العبث. يجب التذكير في هذا السياق بأن الباحثين المقيمين في الجزائر يتقاضون صفر دينار و " شكرا " عندما ينشرون مقالا متخصصا في مجلة محكمة تابعة لمخبر تحت وصاية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ويتقاضون صفر دينار و« شكرا " عندما يقدمون محاضرة في ملتقى دوَلي، وصفر دينار و " شكرا " عندما يشرفون على رسالة ماجستير أو دكتوراه دولة، وصفر دينار و« شكرا " عندما ينتقلون بوسائلهم الخاصة لمناقشة رسالة جامعية، ومن هؤلاء من يسكن في أحياء مخيفة. وهناك من هؤلاء الباحثين من يتقاضى مئات الدولارات عندما ينشر المقال نفسه في بعض البلدان التي تقيم وزنا للجهد العقلي، وهي بلدان صغيرة تعرف أين تضع أموال النفط، كما يعطى له سكن فاخر ويوفر له محيط ملائم . أمر آخر: الجزائر لا تشجع العباقرة والمخترعين لأنهم جزائريون قاصرون على كافة الأصعدة، وقد تعاملهم كصعاليك ومجانين ومعاقين وأغبياء، أو كأنديجان، لذلك لا توفر لهم أدنى شروط البحث كمواطنين لهم الحق في تنمية مواهبهم وقدراتهم، في بلدهم أوَلا. وقد تستورد الجزائر أتعس مهندس أجنبي، لكنها لا تثق في العبقريات المحلية لأن لها وجها أسمر وأسماء عربية أو أمازيغية. وآخر هؤلاء المخترع محمد دوبير الذي لم يجد عملا في الجزائر، ولم يستطع تطوير نفسه وقدراته في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية منذ أزيد من خمسين سنة، وعندما وجد عملا كطبيب بيطري، في إطار برنامج تشغيل الشباب، كان يتقاضى اثني عشر ألف دينار جزائري، أي ما يكفي للقهوة والجرائد. لكنه، وبمجرد خروجه من البلد فاز في برنامج نجم العلوم على قناة أم بي سي على اختراع مميز تحصل إثره على قيمة مالية تقدر بثلاثة ملايير سنتيم، كما سيحصل لاحقا على دكتوراه الدولة من الولاياتالمتحدة. كلَ الحب والعرفان له ولأمثاله. يعني: الطرح الحالي المتعلق باستقطاب الكفاءات الوطنية المهاجرة طرح مقلوب كما يبدو للعيان. ومن الأحسن والأفيد الاهتمام في بداية الأمر بالكفاءات المحلية الموشكة على الهجرة في أول فرصة، وسيتم ذلك بتكلفة أقل، وبالدينار الجزائري، ودون دفع تذاكر الطائرة وتكلفة الإيواء والإطعام والراتب والمنح والعملة الصعبة. الكفاءات الجزائرية التي هربت من البلد، رغما عنها، تستحق كل احترامنا، ومن المهم الاستفادة من تجربتها في حدود الإمكان. لكن، من واجبنا قبل ذلك، أن نوقف النزيف الحالي واللاحق، وهو حاصل ولا مفر منه. أم أننا ننتظر هجرة الكفاءات المتبقية لنحاول البحث عنها عبثا؟ الظاهر أننا نطبق مقولة الأجداد بشكل حرفي: " يطلق ما في يده ويبحث عمَا في الغار".