للمرّة الثانية في أقل من سنة، ها هي فرنسا تشدّ الرّحال جنوبا صوب القارة الإفريقية لتشن عملياتها العسكرية "سنغاري" (اسم فراشة حمراء) في إفريقيا الوسطى التي تعيش عنفا طائفا متصاعدا وتوترا أمنيّا خلّف العديد من القتلى والجرحى والمهجّرين قسرا، وحوّل هذه الجمهورية التي شهدت خمسة إنقلابات منذ حصولها على الاستقلال عام 1960 آخرهاالإطاحة بالرئيس بوزيزي في مارس الماضي إلى ساحة حرب حقيقية. بعد تدخّلها في مالي شهر جانفي الماضي لمحاربة المجموعات الإرهابية التي بسطت نفوذها على الشمال وأصبحت تهدّد أمن المنطقة، وبعد النّجاح الملحوظ الذي حقّقه هذا التدخّل الذي جاء تحت عنوان "سرفال"، ها هي باريس تجرّ قوّاتها إلى مستعمرتها القديمة بقلب القارة السمراء تحت غطاء القرار 2127 الذي أصدره مجلس الأمن والذي يعطي الضوء الأخضر للقوات الفرنسية بالتدخّل في جمهورية إفريقيا الوسطى ودعم قوّة الاتحاد الإفريقي المنتشرة هناك لفترة مدّتها 12 شهرا قابلة للمراجعة كل ستة أشهر بهدف إعادة الأمن الذي تراجع أمام موجة العنف التي ازدادت حدّة في الأسابيع الماضية، خاصة وأن الصّراع الذي بدأ في الأساس على السلطة توسّع إلى مواجهات طائفية بين المسيحيين الذين يشكّلون 80٪ من السكان والمسلمين الذين يمثلون 15٪ من شعب هذه الجمهورية الداخلية التي تحدّها جمهورية السّودان من الشمال الشرقي وجنوب السودان من الشرق وتشاد من الشمال والكامرون من الغرب والكنغو، والكنغو الديمقراطية من الجنوب والتي تحتّل المرتبة 180 من أصل 186 وفق تصنيف البلدان حسب مؤشر التنمية البشرية الذي حدّدته الأممالمتحدة رغم غناها بالثروات غير المستمرة أو المعرّضة للنهب من طرف الشركات الأجنبية. الظاهر والمستتر في عملية "سنغاري" «هولاند" كما كتبت الصّحافة الفرنسية إرتدى من جديد بزّة قائد الحرب، واستظلّ بقرار مجلس الأمن وأعلن تدخّله العسكري في إفريقيا الوسطى بعد ساعات من حصوله على الضوء الأخضر الأممي. وإذا كان الكثير من المراقبين السياسيين والعسكريّن يرحبّون بهذه الخطوة التي من شأنها كما يقولون إن توقّف إراقة الدّماء والمجازر المرتكبة في حق المدنيّين الذين سقط منهم في يوم واحد فقط بالعاصمة بانغي أزيد من 300 قتيل، ومن شأنها التي تطال هذه الطائفة والأخرى، وتسدّ الأبواب أمام المجموعات والمليشيات المسلّحة القادمة من الجوار لتؤجج العنف وتسمح بإعادة الأمن وتنظيم انتخابات كما حصل في مالي، فإن مراقبين وسياسيين آخرين يعتقدون بأنّه كان من الأجدر أن تتولى الأممالمتحدة العملية العسكرية في إفريقيا الوسطى وليس فرنسا. هؤلاء الذين يستنكر بعضهم دور "شرطي إفريقيا" الذي تلعبه باريس، يطرحون عدّة أسباب لمعارضتهم عملية "سنغاري" ويقولون بأن "هولاند" نفسه أعلن في داكار العام الماضي نظرية تتمحور حول العلاقات الجديدة بين فرنسا وإفريقيا تقضي "بأفرقة" الصّراعات في القارة السّمراء بمعنى أن تكتفي باريس بمساعدة الأفارقة بقدرات عسكرية تمكّنهم من إدارة وحل أزماتهم بأنفسهم. لكن تجلّى كما يضيف هؤلاء بأنه بين النظريّة والتّطبيق عند "هولاند" الذي جعل إفريقيا أولوية استراتيجية لبلاده، مسافة طويلة، فباريس على ما يبدو ما زالت تعتبر أن مستعمراتها القديمة لم تخرج بعد من تحت وصايتها، وهي تسعى لوقف زحف الدولة الغربية وحتى الأسياوية التي تتسابق فيما بينها لبسط نفوذها على القارة السّمراء، ووضع يدها على ثرواتها الزاخرة. هل يتكرّر النجاح في مالي؟ وبعيدا عن الدوافع الحقيقية وراء تدخّلها العسكري في إفريقيا الوسطى يتوقّف كثيرون عند حظوظ نجاح التحرّك الفرنسي ويقارنونه بالتدخل في مالي. وبينما تبدي أوساط تفاؤلا بإمكانية تكرار النجاح المحقق في مالي بجمهورية إفريقيا الوسطى، تستبعد أخرى تحقيق نفس النتيجة لأن الوضع في مالي كان مختلفا، فالخصم هناك كان واضحا وواحدا وهي المجموعات الإرهابية التي سارعت إلى الفرار ولم تسجل أي مواجهات تذكر على الأرض. النجاح المحقق في مالي حسب هذه الأوساط احتمال صعب بلوغه في جمهورية إفريقيا الوسطى، لأن الوضع الأمني بها أكثر تعقيدا وأطراف الصّراع كثيرة، فهناك تحالف "السيليكا" المتمرّد الذي قام بعمليات تجنيد واسعة خلال الأشهر الأخيرة وأصبح يسيطر على مساحة كبيرة من البلاد، وهناك مجموعات مسلّحة محلّية وأخرى أجنبية قدمت من دول الجوار، وهناك مليشيات مسيحية تشكّلت بزعم الدّفاع عن نفسها، لكنها أصبحت تستهدف المدنيين المسلمين وتغذي دورة العنف الذي أخذ أشكالا طائفية خطيرة. التدخل العسكري الفرنسي في جمهورية إفريقيا الوسطى وإن دافع عليه غالبية المسؤولين السياسيين الفرنسيّين سواء من اليسار أو اليمين بجناحيه الوسط والمتطرّف، فإن الشارع الفرنسي لا يبدو مرحبّا به، وحسب استطلاعات الرأي فإن أغلبية الفرنسيين يعارضونه بالنظر إلى تبعاته المادية والمعنوية ويعتبرونه هروبا إلى الأمام يمارسه "هولاند" حتى يفرّ من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الجادة التي تعيشها فرنسا. الحلّ ... قوّة إفريقية العملية العسكرية انطلقت في إفريقيا الوسطى والتساؤلات بدأت تتهاطل من هنا وهناك تبحث عن إيجابيات مقنعة، لماذا فرنسا بالذّات هي التي تسبق الجميع إلى إفريقيا، ولماذا هي وحدها التي تذرف الدّموع وتلطم الخدود على معاناة الأفارقة في البلدان التي تشهد صراعات وأعمال عنف، ولماذا لا تثير هذه الصراعات وأعمال العنف عواطف الدّول الأخرى؟ لماذا يسند مجلس الأمن المهمّة دائما إلى باريس ولا يقوم بدل ذلك بدعم الاتحاد الإفريقي ليتولّى بنفسه مهام استعادة الأمن في بلدانه؟ لماذا يتحدّث الجميع عن تشكيل قوة إفريقية لحل الأزمات ولا يبادرون إلى إنشائها في أقرب وقت؟ لماذا تعتبر إفريقيا ذلك القاصر الذي يقوى على حلّ مشاكله إلاّ بمساعدة مستعمره القديم، الذي لا يمكن في كل الأحوال أن يتحرّك إلاّ لتحقيق منافعه الخاصة؟ ويبقى جوهر السّؤال هو لماذا ينفطر قلب فرنسا وتجرّ قواتها للتدخل في إفريقيا، ولا تتحرّك لها شعرة لإنقاذ الفلسطينيين من بطش الصّهاينة، أو لنجدة الروهينغا من مجازر البوذيين في بورما. —