تكشف الكاتبة جميلة فلاح في هذا الحوار الذي خصّت به "الشروق" عديد المسائل التي تخص مسيرتها الطويلة في مجال جمع التراث الأوراسي في الشقين الفني والقصصي الإبداعي، ما أثمر 4 كتب تخص التراث الشفاهي، والأمثال والأحاجي، إضافة إلى إصدار حول سيرة ومسيرة الفنان الراحل علي الخنشلي، وأكدت الكاتبة جميلة فلاح بأن الكاتب المبدع في مجال التراث في حاجة إلى تشجيع ورد الاعتبار حتى يساهم في جمع الذاكرة الفنية والإبداعية. كيف بدأت مسيرتك مع جمع التراث الشفوي بمنطقة الأوراس وبلورته في مؤلفات توثيقية وإبداعية؟ كنت في البداية أكتب الشعر والخاطرة، وأشارك بعض البرامج الإذاعية مع القناة الأولى للإذاعة الوطنية، ثم كان انضمامي للجمعية الوطنية "المرأة في اتصال"، وكنت أثري مجلتها النسوية "أنوثة" ببعض المحاولات الشعرية وربورتاجات تخص تقاليد منطقة الأوراس، من نسيج الصوف وكيفية الوشم ومواضيع أخرى تخص عاداتنا الأوراسية، ونصحتني رئيسة الجمعية السيدة نفيسة لحرش بولوج دهاليز تقاليد الأوراس، حتى أختص في البحث في هذا المجال، فكان لي الإصدار الأول الخاص بالتراث الشفاهي، حيث قمت بجمع مجموعة من الأمثال والأحاجي التي نشرتها لي هذه الجمعية في كتاب نال إعجاب الجميع، خاصة أنه ساعد طلبة الأنتروبولوجيا بجامعة عباس لغرور بخنشلة. كيف واصلت المسيرة في هذا المجال؟ اقتنيت مسجلا وتفرّغت لنفض الغبار عن كنوز من التراث لم يمسسها أحد، كانت لي تجربة رائعة، خاصة ما يتعلق بتواصلي مع كبار السن، حتى أجمع الكم الهائل من أحاجي وأمثال وحكايات ونوادر أغاني، وكنت أقصد النسوة على الخصوص، لأن المرأة وكما لاحظت تخزن بذاكرتها من كل الأشكال التراثية أكثر من الرجل. لماذا في رأيك؟ ربما لأن الرجل الشاوي كان يهتم بخدمة الأرض على مدار السنة، وبحكم أن أهالينا كان أغلبهم نصف رُحّل ينتقلون بين التل والصحراء، ما أثر على حياتهم أثناء تواصلهم مع العربان، وتبادل الحديث والحكي بعد العمل الزراعي. ماذا تقولين عن كتابك الأول أحاجي وأمثال شعبية؟ عندما يصدر لك المنشور الأول، يكون لك إحساس أنك وضعت قدمك في مجال الكتابة، وفرضت وجودك بعد جهد جهيد، وهنا أذكر دور صندوق الإبداع لوزارة الثقافة في زمن الوزيرة السابقة خليدة تومي، حيث لعب دورا فعالا في مساعدة الكثير من المبدعين في إبراز مواهبهم في مجال الكتابة، فكتابي أمثال وأحاجي أظهر أن للأوراس باحثين وأقلام مكبوتة ومبدعين ينتظرون فقط يدا تساعدهم للخروج من القوقعة. وماذا بعد هذه الخطوة الأولى في مجال النشر؟ قررت مواصلة جمع كل الأشكال الشفوية، وكانت فرصة تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية، حيث جمعت أكثر من ثلاثين حكاية شعبية تتضمن الأسطورة والخرافة والحكي على لسان الحيوانات على شكل قصص كليلة ودمنة أوles fables de la fontaine، حكايا كانت تجمع بين الجد أو الجدة والأحفاد، هذه العلاقة التي نفتقدها اليوم، ألا وهي التواصل بين الكبير والصغير، حيث نعيش اليوم تفتتا أسريا بسبب السكن المنفرد للزوجين وغياب الكبير (الجد والجدة)، ما أثر على تربية الطفل الذي فقد المخيال في الرواية والحكي، فالجد كان يساعد في ترويض الصغير على استخدام مخيلته، وأصبح الطفل إن صح التعبير بليدا تائها لا يستطيع كتابة تعبير بسيط، بسبب غياب تلك الصور الخيالية التي كانت تحكيها الجدة، لأن دور الجد والجدة في زمننا الحالي انتهى وتوقف بتهميش هذه الفئة، هذا الشخص المحنك المجرب والمثل الشعبي يقول "اللي غاب كبيرو غاب تدبيرو". ما هي مضامين كتابك "حكايات من التراث الشعبي الأوراسي"؟ ضم عشر قصص وهو خاص بالطفل، وكنا ننتظر نشر الجزء الثاني والثالث منه لأن المادة متوفرة بكثرة، لكن النشر يبقى دائما عقبة في وجه الكاتب. ويتضمن كتابي هذا قصص متنوعة عجيبة، كقصة "عجب العجاب" وقصة "السيف والسرحان"، إضافة إلى قصة "حبحب رمان ولونجا"، وكذا حكايات على لسان الحيوان. وأود أن أذكر هنا أنه كلما نفقد كبير السن نفقد معه العشرات من الحكايات. كيف ذلك؟ في الماضي كانت أعراسنا أحلى، كان الفرح مناسبة للتلاقي للفضفضة من خلال أداء أغاني شعبية أوراسية خاصة تعبر عن المحبة والعشق والصبر والغربة والألم، خاصة أن أغاني الثورة حاضرة بنسبة كبيرة، مثل أغنية "اسمحي لي يالميمة"؛ "هثايا قرين"؛ "انتش بليسيغ"؛ "ماينة فالجنود"، "اطيارث نوجنة"؛ "سوسم علا ممي"، وكانت تؤديها النسوة على شكل "رحبية" أو ما يسمى "ارداس نيغ اربخيث"، أو "مواويل لغنى ناصوض" التي تبدأ بالصلاة على النبي ثم الترحاب بالعروسة على شكل محفل الصبايا، في لوحة فنية رائعة لبنات الأوراس بلباس الملحفة وحلي الفضة، مخضبات بالحناء متزينات بالكحل والسواك والحرقوس، يصدحن بأصواتهن الجبلية للقاء موكب العروسة "امرحبا زوز وقرب، امرحبا بها بها امرحبا بماليها"، هذه النكهة الشعبية التراثية نفقدها اليوم واستبدلناها بديسك جوكي، صخب هرج ومرج. ماذا عن مجموعتك "أهازيج من الأوراس"؟ كتابي "أهازيج من الأوراس" في جزئه الأول كان من إصدار منشورات الشهاب، ويخص الغناء الجماعي رحبية الرجال، أي ايرحابن، وأنا أنتظر نشر الجزء الثاني. ماذا تقولين عن كتابك حول المطرب الراحل علي الخنشلي؟ كانت لي مع المرحوم علي الخنشلي عدة حوارات حول مشواره الفني إلى حين وفاته، إضافة إلى مجموعة من أغانيه التي نقلتها من أسطواناته وشرائط الكاسيت، ونشرت هذا الكتاب من مستحقات دعم لجمعيتي جواهر التي لها الشرف لإقامة كل سنة تقريبا تظاهرة الأيام الوطنية علي الخنشلي للأغنية البدوية، وهذا بدعم من مديرية التوزيع والتنظيم الفني الثقافي بوزارة الثقافة التي أشكرها على رد الاعتبار لهذا الفنان، والموروث الشعبي البدوي بصفة عامة، لأن هذا ساعد اسم الفنان المرحوم علي الخنشلي على الحصول مؤخرا على وسام الاستحقاق من طرف رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة ومعالي وزير الثقافة عزالدين ميهوبي. لك حصة إذاعية تراثية، فهل جسدت فيها بعض طموحاتك؟ في البداية كان لي مشوار مع إذاعة الأوراس بباتنة، وبرنامج من تراثنا، ثم احتضنتني إذاعة أم البواقي وحصة تراثية بعنوان "يليس نتمورث"، وحصة رمضانية "كوكتيل"، وبعد تدشين إذاعة خنشلة كان لي برنامج "ايزوران"، ولحد الساعة أتعامل مع محطة خنشلة ببرنامج دام لعدة سنوات يهم كل فئات المجتمع، وهو تراثي يخص الأحاجي والأمثال ورباعيات الشعر الشعبي، هذا البرنامج مشهور بعنوان "قالوا ناس بكري"، كما كانت لي تجربة مع القناة الإذاعية الثانية بالإذاعة الوطنية ببرنامج يخص الطبخ باللغة الشاوية، إضافة لعدة حوارات مع بعض المحطات الإذاعية، وخاصة مع إذاعة صوت العرب من القاهرة، وهذه الحوارات تخص عادات وتقاليد الأوراس والأمازيغ بصفة عامة. كيف تقيّمين مشوارك الجمعوي بحكم أنك رئيسة جمعية جواهر بخنشلة؟ نضالي الجمعوي بدأ مع الجمعية الوطنية "المرأة في اتصال"، ومن خلال هذا النضال عرفت أن المرأة الجزائرية تحصلت على عدة حقوق دون أن نغفل أن لها واجبات، حيث نالت كل ما تطمح له مقارنة بالمرأة العربية أو المرأة التي تنتمي لحوض البحر الأبيض المتوسط، فالمرأة الجزائرية أصبحت فعالة، حيث فرضت وجودها خاصة لما نالت نسبة معتبرة في المجال السياسي، فقط دورنا كنساء مناضلات هو توعية المرأة التي تعيش في العمق الريفي، المرأة التي تسكن المناطق الجبلية أو الصحراوية لا تزال غائبة وتجهل دورها في تنمية المجتمع. قمت بتسليط الضوء على واقع المرأة الريفية في الأوراس، فما هي النتائج التي خرجت بها؟ المرأة في الريف لا تزال تجهل حقوقها فيما يخص استيلاء الرجل على ميراث الأراضي الخاص بالعرش، ليس لها حق الميراث وتخجل أن تطلب حقها، كما أنني أحاول أن أدافع عن الفتيات اللواتي لا يستطعن إكمال دراستهن، نظرا لبُعد المسافة للذهاب مثلا للثانوية التي غالبا ما تكون خارج نطاق الدوار، وكذا غياب بعض المرافق الحيوية بالريف، كالتكوين المهني ودور الشباب والمصحة الخاصة بالأم والطفل ومدرسة محو الأمية، ولهذا أوجه نداء للمسؤولين في الدولة، باسم المرأة الريفية الجبلية في الأوراس حفيدة الثوار، أنها تعاني تهميشا كليا، فهي لا تزال تحتطب وتجلب الماء من أماكن بعيدة عن بيتها، وإنها تقوم بحرفتها التقليدية من نسيج وتربية النحل وعصر الزيتون وقطف الثمار بطرق بدائية جد قديمة أكل عليها الدهر وشرب. هل من مشاريع كتب وإصدارات جديدة في الأفق؟ لدي عدة مشاريع وأنشطة ثقافية وأخرى تضامنية إضافة إلى تكوينات تخص ما يسمى بالاقتصاد التضامني الاجتماعي تحت إشراف الجزائر والاتحاد الأوروبي وولاية خنشلة كولاية نموذجية لهذه المشاريع المستقبلية التي تهدف إلى تحسين أوضاع المرأة والشباب العاطل عن العمل، كما أنتظر نشر البقية من مخطوطاتي الخاصة بالتراث.