في فيلم "رجل العام" كان توم دوبس (روبن ويليامس) منشطا لحصة فكاهية مسائية على التلفزيون، وقد دعته إحدى المشاهدات ذات مرة ليترشح للرئاسة، وهو ما حصل بالفعل. كانت بدايات الحملة الانتخابية للفكاهي الذي لا يتورع عن قول البذاءات على الملأ خجولة للغاية، غير أن مناظرة تلفزيونية مع المرشحين الكبيرين في الانتخابات جعلت منه منافسا مهاب الجانب، بعد أن جعل منهما موضعا للسخرية. وحتى تكتمل الحبكة، ساهم قصور في برنامج التصويت الالكتروني في نجاح دوبس بنسبة 99 بالمائة من الأصوات... أما باقي القصة ، فليست ذات أهمية كبيرة الآن. في عالم الواقع، هناك نماذج عديدة لتحول أولئك الذين يمتهنون إضحاك الناس إلى رجال سياسة، من المسارح واستديوهات التصوير إلى مقاعد البرلمان ومكاتب الوزارات، ولسنا في الجزائر بعيدين عن الظاهرة، فقد استطاع أحمد بن بوزيد (عطا الله) أن يصل إلى "البرمة مال" كما كان يحلو له أن يسميه في مونولوغاته السمعية، ليثبت للساسة مدى عبثية اللعبة السياسية، واستعداد الناخب الشامت للتصويت على أي كان، مادام الانتخاب لا يؤدي إلى أي تغيير في السياسات. ولست أمزح إذ أعبر عن اعتقادي بأن "سي مخلوف البومباردي" سيفوز في الانتخابات الرئاسية إذا توفرت فيها بعض الشفافية، وامتنعت فيها "اليد الخفية" من تأويل أصوات الناخبين الذين لا يملكون ما يكفي من الحس المدني إلى ما يتوافق مع "المصلحة العليا" للبلاد. منذ أيام قليلة، اختار الناخبون في غواتيمالا جيمي موراليس، وهو ممثل ومذيع ساخر، رئيسا للبلاد بنسبة تجاوزت ثلثي الأصوات، وهو رقم يثير حسد السياسيين في أعرق الديمقراطيات الغربية. وبالرغم من أن الرئيس الشاب لا يملك أي خبرة في إدارة الشأن العام، وهو الذي عجز قبل أربع سنوات في الوصول إلى منصب رئيس بلدية، إلا أن ذلك اعتبر من طرف الناخبين الغواتيماليين ميزة للرجل لا منقصة فيه، بعد أن ضاقوا ذرعا بالطبقة السياسية الفاسدة، والتي وصل فيها الفساد إلى درجة تورط الرئيس المنتهية عهدته في قضية تحويل عوائد جمركية معتبرة، وهي التهمة التي جعلت المسكين يتابع مجريات الاقتراع الرئاسي الأخير من وراء القضبان. وقبل غواتيمالا، أحدث بيبي غريلو ثورة سياسية في إيطاليا، وقاد حركته السياسية الناشئة المسماة " حركة خمس نجوم" إلى نتائج باهرة في الانتخابات التشريعية عام 2013، ثم في الانتخابات الأروبية سنة بعد ذلك. والواقع أن غريلو، عكس موراليس، لم يكن بعيدا تماما عن السياسة، فقد جعل إيطاليا لسنوات طويلة تضحك من نكاته حول الساسة الايطاليين، وهو الأمر الذي جعل أحد الديناصورات السياسية المتعالية يصفه بأنه مجرد شخص تافه، و"أنه إذا أراد ممارسة السياسة فلينشئ حزبا ولننظر حينها كم سيحصل من أصوات". وليت المغفل لم يطلق هذا التحدي، فقد أسس غريلو حزبا، وعلى الرغم من عدم ترشحه شخصيا، حل حزبه ثالثا في تشريعيات 2013، ثم ثانيا في الانتخابات الأروبية عام 2014. بالنسبة لدارسي السياسة، تطرح هذه الحالات سؤالا ملحا: هل انتهى عصر حرفيي السياسة التقليديين؟ في الواقع، هناك مؤشرات عديدة للتحول، فقد صار نجوم الغناء والممثلون ولاعبو الكرة أكثر استقطابا لتأييد الناخبين، وقد اختار الهايتيون منذ 2011 مغني الكومباس ميشال مارتيلي رئيسا لبلادهم، وانتخب الكاليفورنيون بطل أفلام الحركة أرنولد شوارزنيغر حاكما لولايتهم، ولولا أنه ولد خارج الولاياتالمتحدة لكان اليوم جالسا في المكتب البيضاوي يقلب بين يديه ملفات السياسة العالمية ويفتي فيها ب"عضلاته". وفي ليبيريا خاض صاحب الكرة الذهبية جورج ويا منافسة رئاسية عام 2005، ولم ينقصه سوى 10 بالمائة من الأصوات عن تحقيق الفوز، ليكتفي بعدها بمقعد في دكة البدلاء... أقصد في مجلس الشيوخ. ما خطب الناس إذن؟ هل صارت إدارة الدولة فنا من فنون الترفيه؟ أم أن إفلاس الساسة وعجزهم المعلن هو الذي جعل الناخبين في عصر "البيبول" يرجون الخلاص لدى "أيقوناتهم" و"نجومهم" الذين صارت صورهم العملاقة تملأ الفضاء العام تماما مثلما كانت صور الزعماء التقدميين الملهمين قبل عقود "تلوث" واجهات البنايات الرسمية ونشرات الأخبار والكتب المدرسية.... إن أمرا ما يحدث في غفلة منا، وقريبا سيصوت الناس في الانتخابات بمنطق "أعجبني" لا بمنطق "أقنعني"، ولاشك أنكم تذكرون كيف تمكنت عندنا مرشحة مغمورة عن حزب مغمور من الوصول إلى البرلمان، في نفس الوقت مع عطاالله، فقط بسبب مظهرها الجذاب، أو ربما على الأصح، بسبب ما جعله الفوتوشوب يبدو جذابا. وقد سمعت قبل أكثر من سنة أحد السياسيين الكنديين يشكو من أن وسامة الشاب جاستن تريدو قد تقلب عرش المحافظين في الانتخابات القادمة، وهو ما حصل بالضبط قبل حوالي أسبوعين، حينما قاد تريدو الحزب الليبرالي للفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان، وعاد به مجددا للحكم بعد أكثر من عشر سنوات من حكم ستيفن هاربر وحزبه. عل العموم، وبالعودة إلى حالة غواتيمالا، أرجو شخصيا أن يبر الرئيس الجديد بوعده لبني قومه، وهو أنه بقدر ما أضحكهم في السابق، سيعمل بكل جد كي لا يبكيهم في المستقبل، غير أني أستسمحه لأغتنم الفرصة للإشادة ببلدي في هذا المجال، فإذا كان الكوميدي عندهم قد يصبح حاكما، فإن الحاكم عندنا قد يصبح كوميديا، بل ومهرجا حتى، حتى يوفر للناس بعض الفسحة للضحك ... عليه على الأرجح... غير أنه في المقابل يبقى ضحكا كالذي وصفه المتنبي: وكم في "بلادي" من المضحكات ..ولكنه ضحك كالبكا