قبل تسعة أيام من الآن، كان الحديث عن السّاعات الأخيرة قبل حلول رمضان.. توالت السّاعات وحلّ شهر الصيام والقيام والإحسان.. فرحت لمقدمه قلوبُ وأرواح أهل الإيمان.. تاب كثير من عباد الله إلى مولاهم الغفور الرّحيم، وعمرت بيوت الله بالمصلّين والتّائبين.. رأينا المساجد عامرة، ورأينا عباد الله المؤمنين يتلون القرآن قبل وبعد كلّ صلاة، تسمع لتلاوتهم دويا كدوي النّحل، وترى من أحوالهم ما يبعث على الأمل ويدلّ على أنّ هذه الأمّة وإن كانت تمرض فإنّها لا تموت، وأنّ العبد المؤمن مهما طالت غفلته عن الله، فإنّه لا يتردّد في العودة إلى خالقه ومولاه، متى ما وجد حاديا يحدوه وحضنا يؤويه. كلّنا نفرّط في حقّ خالقنا ومولانا سبحانه ونغفل عنه، ولا أحد منّا يعلم مقامه عند الله، وكما نحبّ لأنفسنا أن يتوب الله علينا ويقبلنا، لا ينبغي أبدا أن نيأس من توبة عبد من عباد الله، مهما رأينا من إعراضه وصدوده، فقد يكتب الله له التوبة في أيّ لحظة ويفتح على قلبه وروحه، فيصبح إنسانا آخر.. لا يجوز أبدا أن نتّهم عبدا أقبل على الله في موسمٍ من مواسم الرّحمات مثل رمضان في نيته ونشير إليه بالبنان، ونقول: انظروا إلى عبّاد رمضان! انظروا إلى أصحاب العقود المؤقّتة مع المساجد والصّلاة والقرآن!.. هناك كثير من عباد الله المسلمين المؤمنين من يتوبون في رمضان، وفي نيتهم أن يكون شهر الرّحمات بداية لحياة جديدة، لكنّ الفتور يتسلّل إلى أنفسهم فلا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل رمضان.. إنّها مسؤوليتنا جميعا أن نحتضن هؤلاء المقبلين على الله، ونبشّ في وجوههم ونتعاون وإياهم على الثّبات على طاعة الله.. كلّنا معرّضون للفتن، ووالله لولا فضل الله لزاغت قلوبنا جميعا إلى هذه الدّنيا ولهجرنا المساجد والقرآن. كلّنا نخطئ وكلّنا في حاجة إلى التّوبة، وما من عبد مسلم إلا وفي داخله جذوة من الخير تنتظر من ينفخ فيها لتشتعل وتنير القلب والرّوح، ورُبّ كلمة صادقة تخرج من قلب ناصح مشفق يصلح بها الله من شاء من عباده.. تقول إحدى الفتيات: "كنت أعيش بهواي، أتفنّن في لباسي وزينتي، وعطري يفوح لأمتار، ليرى الناس كم أنا أنيقة وجميلة، وذات يوم خرجت إلى السّوق مع والدتي، وبينما أنا أمشي إذ سمعت فجأة صوتاً من خلفي يقطر حباً وحناناً: "يا حبيبتي.. يا حبيبتي". فالتفتّ فإذا سيدة تصافحني بحرارة، فصافحتها بدهشة، فشدّت على يدي وقالت بصوت حنون: "يا حبيبتي.. إنّي أرى الله قد ألقى على وجهك نوراً فلا تطفئيه بظلمة المعصية"، فأخذتني العزة بالإثم وأخذت يدي من يدها ومضيت، غير أنّي أحسست كأنّما كلماتها قد نُقشت في قلبي. فلمّا عدنا إلى البيت صارت تأخذني رعدة شديدة كلما ذكرت كلماتها "إني أرى الله قد ألقى على وجهك نوراً"، وساقتني كلماتها إلى المرآة ونظرت إلى وجهي كأنما أراه لأول مرة وخيل إليَّ في وجهي نوراً يضيء ثم يخبو، عندئذٍ رنّت في فؤادي كلماتها "فلا تطفئيه بظلمة المعصية".. صلّيت في تلك الليلة صلاة العشاء، صلاة متدبرة لأول مرة في حياتي، ثم أويت إلى فراشي، غير أنّ النوم جفاني، وبدأت كلماتها ترنُ من حولي: "فلا تطفئيه.. فلا تطفئيه". قمت مسرعةً إلى سجادتي وقلبي يكاد ينخلع من شدّة الخفقان، وخررتُ ساجدة وأنا أهتف: أعاهدك يا ربّ ألا أطفئه أبدا، وبدأت الدموع تنهمر مدراراً وأنا أقول: يا رب! لقد أمهلتني طويلاً. ما أكثر نعمك وما أقل حيائي يا رب.. ومن لحظتها وفّيت بعهدي فلم أطفئه بمعصية أبداً، حينئذٍ التفتّ إلى وجهي فإذا هو يتألق نورا" ا.ه. إنّه لا أحلى ولا أجمل ولا أنفع من أن يتّخذ العبد المؤمن أهمّ قرار في حياته بأن يتوب إلى الله ويضع أوّل خطوة له على طريقٍ يحبّها الله ويرضاها ويفرحُ لمن يسير عليها يطلب رضوانه.. طريق يجد فيها العبد المؤمن السّعادة الحقيقية وبرد اليقين، وينعم فيها بطاعة مولاه، ويحظى بصفاء قلبه وطهارة روحه ونور وجهه. فلتكن الكلمة الطيّبة والابتسامة الحانية سلاحنا للأخذ بأيدي إخواننا الشّباب الذين لا يزالون متردّدين في الإقبال على الله في شهر الغفران والعتق من النيران، ولنكن بأخلاقنا وحِلمنا وسعَة صدورنا عونا لإخواننا التّائبين لنثبت وإياهم على طاعة الله، مستعينين بدعاء الله أن يأخذ بأيدينا حيث رضوانه ويثبّت قلوبنا وأقدامنا جميعا على طاعته.