بقلم: مريم الساعدي/ الإمارات تشاء الأقدار أن أقضي ثلاثة أشهر في مدينة صغيرة في أوروبا، سكنت مع بعض أفراد العائلة في شقة صغيرة في مبنى مكون من عدة شقق وملاصق لمباني سكنية أخرى من نفس الطراز. ولكوني شخص بلا علاقات اجتماعية تشجعه على الخروج والاكتشاف، ولكوني شخصية كسولة في الأساس وتميل إلى الجلوس طويلاً في مكان واحد، فكنت أقضي أوقاتي في معظمها جالسة في الشرفة. أحمل اللابتوب الصغير مع كوب قهوة كبير وكتاب أكبر بنيّة الكتابة على الأول وارتشاف الثاني وقراءة الثالث، وكثيراً ما كان يمضي الوقت دون أن أؤدي أي من المهام الثلاث، إذ أغرق في حالة تأمل صامت للسماء ولحركة أوراق الشجرة الوارفة المتشعبة الجذور الممتدة أمامي. تأسرني دوماً أوراق الشجر وحركتها الخفيفة وهي تحاول الانعتاق من جذع الشجرة القوي الصامد المصمم على الاحتفاظ بها سجينته. من موقع شرفتنا كنت أطل على نوافذ الشقق الأخرى. أشغل أغنية عبد الحليم حافظ وهو يقود دراجته الهوائية في شوارع القاهرة ويغني أغنيته الجميلة أحبك. أشعر بالبرد وأشتاق لطقس دافئ وأتمنى لو كنت في ضجيج القاهرة مثل فرعون أزلي. عن يميني تسكن عائلة خليجية، عرفت من نوعية الملابس الرجالية التي تنشرها امرأة تخرج فقط في آخر النهار لتنشر أكوام الغسيل على الشرفة. في النافذة المقابلة عائلة هندية، عرفت من ملامح الزوجة التي تقضي وقتها كله من لحظة دخولها البيت قرابة الساعة الخامسة مساءً مع زوجها وحتى ما بعد منتصف الليل. يحضران معاً. يضيئان أضواء البيت، يقف الرجل أمام شاشة الكمبيوتر المواجهة للنافذة، يُشغّله ويجلس قبالته لبعض الوقت، ثم يتجه لشاشة التلفاز يفتحه ويستلقي أمامه في كنبة وثيرة. المرأة تتجه مباشرة نحو المطبخ، وتظل تطبخ حتى نهاية الليل، كل يوم, فقط تطبخ. كل يوم. في الشقة السفلية عن اليمين عائلة فرنسية، كما سمعت من بعض أطراف الأحاديث التي وصلتني. سيدة عجوز مع زوجها، في الصباح يخرج الرجل، يفرش مفرشاً صغيراً على طاولة الحديقة، ثم يحمل أكواب شاي، تلحقه العجوز بصحن كعك، ويجلسان معاً، مثل عشيقان جديدان يتهامسان. يصلني ضحكهما الطاولة الصغيرة بمفرشها المخطط أكواب الشاي المزخرفة، صحن الكعك، وحولهما شجرة صغيرة تدفع عنهما ضوء الشمس لو اشتدت في وقت ما أثناء النهار. وفي المساء تضاء طاولة الطعام في الصالة بشموع، نعم يشعلان شموعاً كل ليلة ويتهامسان على ضوئها. وأتساءل كم من الأحاديث الحلوة بقيت بينهما بعد كل هذا العمر. أجلس وحدي، لا أحد يكلمني، فلا أعرف أحد، حتى الأقربون، فأنا مختلفة، لا أجيد الطبخ وأعمال المنزل، ولا أحب الجلوس مع النساء لقول لا شيء سوى التحديق في الفراغ. والناس عندنا لا تحب المختلف، عليك أن تشبههم في كل شيء تماماً، أي أن تحب ما يحبون وتكره ما ومن يكرهون، وأن تكون سعيداً لأنك تأكل وتخرج ما تأكله، فهذا دليل الصحة الجيدة والنعمة الوفيرة، وأي مطلب للإنسان بعد ذلك؟ عليك أن تصدق بذلك حتى تصير جديراً بمحبتهم الإلهية التي يؤمنون أنك بها فقط يمكن أن تدخل الجنة. ودخول الجنة بعد الموت أمر مهم جداً. لا يهم كيف تعيش حين تكون حياً، الأهم أن تعيش سعيداً بعد أن تموت. في الشقة السفلية تماماً عائلة أوروبية صاخبة ومرحة جداً. وأظنها ألمانية كما ميزت من التحية الصباحية التي يتداولونها بصوت عال. أغلب الأسبوع يدعون أصدقاء لعزومات شواء في الحديقة، يُصر أخي إغلاق باب الصالة المؤدي إلى الشرفة ليمنع دخول الدخان، فأجلس أستمتع بالروائح. “أية روائح؟ إنه دخان فحم!" ، يقول أخي باستنكار. أقول: “لا، إنه دخان حياة". ولكن طبعاً لا يسمعني كعادته. فالرجال عندنا كبار، أكبر من استيعاب أي شيء تقوله النساء، يتذكرون جيداً أن النبي قال إنهن ناقصات عقل، لذلك يترفعون عن ترهاتهن. وعموماً لم يعد يعنينا الأمر، فساد الصمت والهدوء. تبدو علاقات النساء والرجال لدينا أشبه بالحرب الباردة بين الكتلة الاشتراكية والرأسمالية. وتشعر النساء أن الرجال هم الكتلة الاشتراكية التي ستستفيق يوماً لتكنس أكوام الوهم. تضاء أنوار الحديقة الصغيرة لسكان الشقة السفلية استعداداً لحفل شواء جديد، ثلاث رجال وأربع نساء، النساء يضحكن ويتحدثن وتبدو عليهن الجدية أحياناً والمرح أحياناً أخرى، والرجال في كل الحالات يصغون ويضحكون ويحضرون الفحم ويقدمون الشواء. ترتدي النساء ملابس زاهية تبرز جمال أجسادهن، وحين تنهض واحدة يتحفز الجميع لمساعدتها فيما هي ناهضة لأجله. وقبل أن ينفضّ الجمع يحمل النساء والرجال آثار الحفل ويغسلون معاً الأواني والأطباق ويعيدون ترتيب الحديقة وتنظيفها وتهيئتها لحفلٍ جديد. في الشقة العلوية على اليسار وتلك على الواجهة يقال إنهم عائلات عربية. رغم روائح الطهي والأصوات النسوية الخافتة المنبعثة من الداخل لكن لا أثر لامرأة في الخارج. عندما ينتصف الليل تكون حركة أوراق الشجر قد همدت، ويبدو أنها رضيت بقدرها في الالتصاق بجذع الشجرة لفترة أخرى في انتظار فصل السنة الذي يحررها، سيكون فصل خريف وستكون صفراء يابسة حينها، ستكون ميتة. أحمل اللابتوب الصغير وأنا أنتوي البدء بكتابة الرواية غداً، وكتابي الكبير وأنا أنتوي قراءته غداً، وكوب قهوتي المُرّة وأنا أنتوي أن أتشاركه مع أحد ما غداً. غداً...غداً سيكون كل شيء مختلف، فأنا شخص التصقت بمسام جسده، منذ قليل، منذ قليل فقط، رائحة حفل شواءٍ أوروبي صاخب.