النَّقْدُ، بتعريفه اللّغويّ، مشتقّ من كلمة (نَقَدَ) التي تعني أساسا مَيَّزَ. فكما جاء في المُنْجِد في اللُّغَة والأعْلام، نَقَدَ الدَّراهم وغيرها: ميَّزها ونظرها ليعرف جيِّدها من رديئها. وهذا، بلا ريب، المعنى الأول الذي حملته هذه اللَّفظة قبل تطوّرها واتساع مفهومها. فقيل: (نَقَدَ الكَلامَ) ومعناه أظهر ما به من العيوب والمحاسن. ومنه نشأ مفهوم النقد الأدبي بمعناه المعروف حاليا. فالنقد، بتعريفه الأدبي، هو فن تفسير الأعمال الأدبية ومحاولة التَّمييز بين أساليبها وكشف محاسنها ومساوئها. العملية النقدية تمرّ عادة بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: وتدعى “مرحلة التفسير” وتتمثل في كشف المعنى العام الذي أراد الأديب أن يعبر عنه. المرحلة الثانية: وتدعى “مرحلة التَّحليل” وتشمل شرح الأسلوب الذي سلكه الأديب للتعبير عن أفكاره وعواطفه ورؤاه. المرحلة الثالثة: وتدعى “مرحلة التقويم” وتتمثَّل في الحكم على العمل الأدبي وإبراز مدى تفوّق الأديب أو فشله في التعبير عن المضمون بالشكل المناسب. أجمع النقاد على ضرورة مرور العملية النقدية بالمرحلتين الأولى والثانية لكن فئة منهم اختلفت معهم في الرأي بشأن المرحلة الثالثة فأكدت أن مهمة النقد ينبغي أن تقتصر على الكشف عن مضمون النص الأدبي وشكله دون الحكم عليه وترك ذلك الحكم للقارئ. وأنا أمِيل إلى هذا الرأي، فالقارئ، في نظري، أحقّ بالحُكم، فالمُؤلَّفات موجّهة، في الأخير، إليه يستمد منها متعة ومنفعة وعبرة، رغم خضوعها الحتمي، في وقت من الأوقات، لعمليات النقد. لا بدّ من إجراء القراءات النقدية وفقا لصنف الرواية والتيار الأدبي الذي تندرج فيه وليس مطلقا بمقارنتها مع الأعمال الإبداعية الحديثة التي قد يستفيد بعضها من شهرة الكاتب والضجة الإعلامية فيشغل بذلك مرتبة أعلى بين المؤلفات، والزمان بلا ريب خير حاكم على أعمالنا. لا مجال، على سبيل المثال، لمقارنة رواية واقعية كلاسيكية تركِّزُ على المضمون برواية معاصرة شعرية الأسلوب تقوم على الشكل أو مقارنة هذين الصنفين برواية بوليسية على طريقة روايات أغاتا كريستي. فإن أرادنا الإنصاف، نقيّم الرواية الكلاسيكية في إطار ما صدر من روايات واقعية كلاسيكية لا ضمن غيرها من الأصناف. لكل رواية بنيتها وأسلوبها ولكل أديب الحق في اختيار ما يراه مناسبا لروايته تماما مثلما أكد نقاد، من قبل، مثل الناقد البريطاني بيرسي لوبوك (1879-1965) الذي قال في كتاب “صنعة الرواية” وهو من أهم الدراسات النقدية التي تعالج الفن الروائي: “الكاتب الروائي يمتلك كامل الحرية في اختيار الأسلوب الملائم لكل مقطع حكائي فقد يستعمل المسرحية حينما توفر له هذه المسرحية كل احتياجاته، أو يستخدم الوصف التصويري حينما يتطلب شكل القصة ذلك..” إن النقد لن يكون منصفا إلا إذا خضع لجملة من الشروط. فلا بدّ أن يكون النقد عن علم ومعرفة وموضوعيا وبتقديم أدلة وشواهد لا عن جهل وباطل وعن إدعاءات وتُهَم زائفة. ولا يمكن أن ينظر النقد إلى مضمون النصّ وشكله من غير تأمل السيرة الذاتية للأديب والعوامل النفسية والعاطفية والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المختلفة والتيارات الفكرية والأدبية المؤثرة في الكاتب والتي تنعكس على مؤلفاته. ولا بدّ أن يلتزم الناقد مبدأ الحياد وعدم الانحياز لأي تيار أدبي أو كَاتِبٍ مِن الكُتَّابِ، ولا بدّ أن يحترم كل الأصناف الروائية حديثة كانت أو قديمة فلا يستهين بأي منها ولا يستخفّ بمن يتبعها. فكم من موضة ظن المرء أنها ولَّتْ ولن تعود وإذ بها ترجع وتسود. فإن كان الناقد شغوفا بالأعمال الإبداعية المعاصرة، فلا بدّ عليه أن يعلم أن هناك قراء يفضلون أعمالا أخرى ومنها المؤلفات الكلاسيكية، فعلى الناقد احترام أذواقهم واختياراتهم فالمؤلفات موجهة إليهم في آخر الأمر. وخير الأعمال الأدبية هي تلك التي تجتاز إمتحان الزمن وتستحسنها الأجيال المقبلة وتبقى صالحة بعيدا عن أيّة ضجة إعلامية، وهذا ما ينطبق على مؤلفات التيار الواقعي الكلاسيكي الجزائري الذي ذكرناه آنفا. فلا أحد من النقاد ينكر أن الإقبال على مؤلفات مولود فرعون ومولود معمري ومحمد ديب وآخرين مستمر بعد مرور أكثر من نصف قرن على ظهورها بعيدا عن أيّة ضجة إعلامية. أجل، هذا الأدب حيّ قائم وإليه ننتسب، فإن قال قائل مات فقد كذب. بقلم المترجم والكاتب الجزائري المهجري مولود بن زادي - بريطانيا