بقلم : سعدت في السنين الأخيرة بقراءة كتابين راقيين في السيرة الذاتية لمؤلفين جزائريين مغتربين من أعوام. أمّا الأول فيحمل عنوان "لقبش" للأستاذ والإعلامي والشاعر عياش يحياوي المقيم في أبو ظبي، وهو كتاب يستدعي، بالنظر إلى عمقه وأثاثه وعفويته وسرده الراقي، أن تنتبه إلى قيمته الاستثنائية مختلف الجامعات والمخابر المهتمة بالشأن السردي والأنتروبولوجي والثقافي. وأمّا الثاني فيحمل عنوان" جبانة اليهود" للكاتب والمهندس محمد حسين طلبي المقيم في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة. صدر كتاب "جبانة اليهود، أقوى من الدمع" أو "ذاكرة لزهر الطفولة والثورة"، الذي يقع في 319 صفحة، عن دار النعمان للطباعة والنشر، الجزائر، 2016، وهو، من منظوري، من أهمّ الكتب التي ولجت عوالم السيرة الذاتية، بوعي واحترافية يستحقان التنويه بهما. للعلم فإنّ لقبش، كما "جبانة اليهود"، ينطلقان من الطفولة التعيسة لهذا الجزائري الذي عاش، بقدرة قادر، في أجواء من الفقر والمرض والإهمال والمظالم والموت. وجدت في "جبانة اليهود"، الحيّ التعيس الذي يقطنه الفقراء أثناء الاحتلال الفرنسي، حكايات تعود إلى قرابة ستين سنة، إلى ذلك الوقت الذي كان الجزائريون يحلمون فيه بوطن لا يسيّره اللصوص والبرابرة القادمون من فرنسا لصناعة جنتهم الخاصة في بلدان غيرهم، وبالمقابل، يساهمون باعتزاز في تشييد جهنم الأهالي في بلدهم وفي تراب أجدادهم. كما وجدت نفسي في هذا الكتاب، طفلا يقتات من نفايات الجيش الفرنسي، مثل كل هؤلاء الذين لم يكونوا محظوظين ببلد مستقل. أن يتذكر أحدنا هذه الحقبة اللعينة فتلك نعمة حقيقية، وبركة من بركات السماء، أمّا أن يدوّنها بتفاصيلها، وبنوع من البذخ الأسلوبي، فتلك معجزة لا تحصل دائما في عالم الكتابة السردية، وفي المذكرات والسير الذاتية برمتها. لقد لاحظت، في واقع الأمر، أنّ المؤلف بصدد ترقيع الذاكرة الهشة ومحاولة تقويتها بهذه العلامات، أو بصدد إنعاش ما ذبل من ماضينا القريب، من تلك الحقبة المدمّرة التي جعلت الجزائري حشوا في المجرّة، وعبدا من العبيد الذين لا شأن لهم. لكننا ننسى بسرعة فائقة ما لا يجب نسيانه أبدا لأنه أضرّ بنا، وما زال يلحق بنا أضرارا لن تنتهي غدا. ذاك ما قاله محمد حسين طلبي بمسؤولية وذكاء. الأحداث والقصص الواردة في كتاب "جبانة اليهود" ليست مجرد أخيلة باهتة لا مرجعية لها، وليست ترفا ذهنيا عابثا لتمضية الوقت. إنها واقعية، ومؤلمة جدا بالنظر إلى أنها تنقل، بنوع من الوقار اللافت، الديكور العام للطفل الجزائري، وللأهل والناس: العادات، المحيط، المدرسة، المواطنين البسطاء، المعمرين الفرنسيين، الأسرة، المكان، الفدائيين، المعلمة و"نضال الأطفال" انطلاقا من تلك الأحياء التي لم تكن حية آنذاك. كانت مجرد محتشدات، شيئا يشبه السجون والمنافي القديمة التي تحدثت عنها الأساطير. هل تتذكرون كتاب "طفولتي" للروسي مكسيم غوركي، صاحب رواية الأمّ؟ "طفولتي" هو كتاب ينقل فيه هذا الكاتب الفذ جزءا من كيانه، بعيدا عن السياسة وعالم الكبار والأدباء والشعراء والامتيازات والشخصيات المهمة في الدنيا، وهو من أجمل مؤلفاته التي أسست على العفوية، كما هي، دون إضافة أو اختزال، وكان ذلك سرّا من أسرار نجاح هذا الكتاب الخالد في الإرث العالمي. الأمر كذلك بالنسبة إلى "ذاكرة لزهر الطفولة والثورة" منظورا إليه من هذه الناحية. كنت أرغب في نقل مقاطع من هذا البهاء السردي الباهر، لكني وجدت نفسي مرغما على الاستشهاد بعشرات الصفحات كعينات تمثيلية على الجهد الذي بذله المؤلف محمد حسين طلبي في انتقاء المعجم والأشكال التعبيرية الدالة على تلك المرحلة القاسية من حياة الجزائري، وبهذه الحياكة المثيرة التي يمتلكها مهندس متمرّس ينظر إلى العمران سيميائيا ودلاليا، بكثير من الدقة والانسجام ومراعاة الجانب الفني كجوهر من الجواهر، وبشيء من التميز والعبقرية في التعامل مع الجدث والذكرى والجملة والصورة والأثاث المعرفي بشكل عام. كم هي رائعة تلك الصور والاستعارات الحية التي تقفز إلى روحك كالفراشات! إنها غاية في الجمال والإثارة، شأنها شأن هذه المداورات والانزياحات التي لا نتوقعها أبدا لأنها مفاجئة وسارة. عندما نستطيع نقل اللحظات المؤلمة في حياتنا ببلاغة راقية، وبنوع من التعبيرات الزاهية، المفارقة للمعيار القائم، أو المستهلكة، فذاك معناه أننا حققنا هدفين: هدف التبليغ وهدف الإمتاع، وتلك غاية من الغايات المثالية. لذا أعتبر أنّ هذا الكاتب وفّق من هذه الناحية في تقريب اللحظة من المتلقي، وفي جعله قريبا من المنجز، مشدودا إليه لأنه يفرض عليه ذلك بأبهة واضحة، وبقدرات سردية لا يمكننا عدم ملاحظتها لأنها متواترة ولافتة. يأتي هذا المؤلف الجديد بعد سلسلة من المقالات والكتب التي نشرها المهندس محمد حسين طلبي في الجزائر وخارجها، ومنها: بنات فاطمة، عزف على نزف، هذيان الأحاجي، يسألني بوعلام، قريبا من طقوسهم، يدور حول نفسه، غربة الكلام، رسائل إلى جيزيل، الجاحظية بيتنا. وبانتظار مذكراته الأخرى، تلك التي أنجزها، وتلك التي تنتظر النشر قريبا، فإنّ كتاب "جبانة اليهود"، من أهمّ السير الذاتية التي اطلعت عليها إلى حدّ الآن. هناك اشتغال جاد على الذاكرة والتاريخ، وعلى الشخصيات والأماكن ومختلف العلامات التي ظلت راسخة في ذهن المؤلف، قبل أن تنتقل إلى الورق بطريقة قريبة جدا من السرد الروائي، بل إنّ هناك مقاطع روائية تستحق تأملات خاصة. هنيئا للكاتب وللمكتبة بهذا الإنجاز الذي يستحق العناية من قبل القارئ والناقد، ومن قبل المؤسسات التي تهتم بالسرد والذاكرة.