لم يكن بيير كلافري رجل دين و فقط، كان شاعرا و مثقفا عميقا و إنسانيا، وكان فوق هذا و ذاك مواطنا جزائريا، بحس وهراني راق. صوت المونسينيور بيير كلافري كان بلسما و مازالت أصداؤه تتردد بين جنبات وهران، وفي ضمائر من استمعوا إليه أو سمِعوا عنه. في صوته شيء عميق وصادق يدعو الناس للاقتراب من بعضهم البعض، والإنصات والحوار، ومحو الحدود الوهمية القاسية و إسقاط الأسوار العالية العازلة . صدى صوت بيير كلافري يحاول جاهدا أن يساهم في إيقاظ الضمائر المخدَّرة، والنفوس المصابة بفيروس الكراهية والإقصاء، الذي يؤذي صاحبه قبل غيره. لكم أحب "الوهارنة" هذا الأب بيير كلافري، إنسانيا تقيّا، وشاعرا مثقفا. فقد اقترب كثيرا من الناس البسطاء فاستأنسوا به وأستأنس بهم، حتى أصبح منهم ولهم. امتزج في تفاصيل حياتهم اليومية. مع عامتهم ونخبهم، ولَم تفصل بينهم اللغة فهو يتكلم اللغة العربية و يعرف اللهجة الوهرانية الجميلة. لا.. ولا اختلاف هندسة أماكن العبادة مسجدا كان أو كنيسة، مادامت الصلوات لله. لرب الجميع. ولمعرفة بيير كلافري العميقة بالدِّين الإسلامي، ولاطلاعه على الثقافة العربية والقرآن، فقد أطلق عليه الوهرانيون بلطافة لقب الشيخ المسيحي أو " أسقف المسلمين". أحب الوهرانيون بيير كلافري ابن البلد. ابن حي باب الواد بالعاصمة حيث مسقط رأسه في الثامن من ماي العام 1938. ومنذ أن بدأ يعي الواقع ويفهمه، أصبح رافضا للأطروحات الاستعمارية العنصرية، ذاهبا عميقا نحو الناس البسطاء، يرنو بقلبه وفلسفته وسماحته نحو عالم تسوده العدالة و الرحمة بين الجميع. اختار بيير كلافري الحياة في الجزائر بعد الاستقلال، و كان ذلك طبيعيا بالنسبة لرجل دافع عن الحرية لبلد هي مسقط رأسه. الجزائر التي يعتبرها بلده وانتماءه على مدى أربعة أجيال. الجزائر التي يحب حتى الموت . كما اختار بيير كلافري أن يظل في البلاد أثناء العشرية السوداء، لم يهاجر وهو الذي كان يدري بأنه مهدد بالموت المؤكد. كان يرد على من ينصحه بالمغادرة، بأنه ابن السواد الأعظم من الشعب الذي لا يستطيع المغادرة، وقدره أن يظل وسطهم يقاسمهم الحلو والمرّ. و هو في مقولته و اختياره هذا يذكرني بعبد القادر علولة الذي اشترك معه في المصير نفسه. يدرك كل من عرف بيير كلافري من الوهرانيين ومن غيرهم، أن الكلمة المفتاح و الأكثر ترديدا والأقرب إلى قلب المونسينيور كلافري رجل الدين والشاعر هي كلمة (الحوار). لا عيش مشترك دون الحوار. دون الانفتاح على الآخر. هكذا كا ن يردد. نعم .. ولعله يرى من حيث هو الآن أن البشرية لا تزال بحاجة إلى الحوار حتى الآن. هذه الكلمة هي العنوان الكبير الذي ظل ينير طريق ابن حي باب الواد صديق وأخ الوهرانيين. ويستدل بالحوار بين البشر لينظم علاقتهم بالخالق، وعلاقتهم أيضا ببعضهم البعض. ويشير إلى أن في داخل كل واحد منا صوتا عميقا يناديه للمحبة. علينا أن لا نصفي حسابات الأرض باسم السماء، فلنترك الله لنا جميعا كما يقول الشيخ بيير كلافري . كان وفيا لفكره ولانشغاله بمصير المستضعفين، فنقرأ بعض تأملاته الدقيقة في ما كتبه عن أوروبا التي سيتغير وجهها وتركيبتها، لأن الجنوب المفقَّر سيرحل ذات يوم نحو الشمال. هوذا بيير كلافري . كان يُؤْمِن بما يفعله وسلوكه قائم على ما يُؤْمِن به. ينادي بالحوار، ومناداته تلك كانت تزعج التطرّف الذي كان يخيم مثل ظلام كثيف في العشرية السوداء الدموية . لم يخفْ و هو يدرك أن الموت يتربص به. يقول بأن كل لحظة حياةٍ هي انتصار على الموت، وأن أجمل طريقة للحفاظ على الحياة، هي أن تهديها لمن يستحق، و في الوقت والمكان المناسبين لهذا العطاء الرمزي. التضحية. لم يكن يعلم ذلك الإرهابي الأعمى الذي وضع القنبلة يوم أول أوت سنة ستة وتسعين، أنه بفعله الإجرامي، قد مزج إلى الأبد دم بييركلافري المسيحي، بدم صديقه و مساعده وسائقه وأخيه المسلم محمد بوشيخي، وأصبحت هذه التضحية الرمز درسا سيبقى يعبر أجيال الأرض. منذ سنوات مرّت، حضرتُ عرض مسرحية نالت إعجابا كبيرا بمهرجان أفينيون عنوانها "بيير ومحمد". كانت الفكرة مبدعة، حيث الممثل الفنان جيرمان يقف على المنصة لأداء الدورين معا دور المسلم محمد ودور المسيحي بيير. الاثنان يعيشان في الواحد، على الخشبة، الحياة المفترضة على الأرض وفِي السماء. كان التأثير جليا و الدموع المستترة بادية على الجمهور.مضى زمن طويل على امتزاج دم بيير بدم محمد، ومازال الإرهاب يهرق المزيد من الدماء، في كل مكان على هذه الأرض التي خلقت للحياة والحب . امتزج الدمان الأحمران الزكيان، دم بيير كلافري ومحمد بوشيخي، وفي امتزاجهما لا فرق بين حمرتيهما، لا فرق بين حمرة دمٍ مسلم وحمرة دم مسيحي . وليس في فصيلة الدماء ما يسمح بالتكفير أو الاغتيال.