قام فزعا من نومه وهو يتحدث بكلام غير مفهوم، جمل غير متناسقة وألفاظ متناثرة تتبعثر معها المعاني في شتى الجهات من حجرة مظلمة. مشى خطوات ويداه ممدودتان وعيناه شاخصتان دون أن يرى شيئا. هرعت إليه أمه وأوقفت مسيرته اللاشعورية والتي لا هدف لها. ثم استفاق على إثر ضمّ أمه له، وسمع صوتها العذب وهي تردد بخوف ووقار: «..حمار الليل، حمار الليل.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! «. كان عمره آنذاك لم يتجاوز الأربع سنوات وهو يتذكر تلك الواقعة المرعبة التي سردتها له والدته وكان هو بطلها مع أنّه لم يتذكر منها شيئا في الصباح الموالي لتلك الليلة الغريبة.ما كان له أن يهتم بتلك الحادثة في ذلك الوقت، فحديث الأم وتوصيفها ثم تفسيرها: حمار الليل! كان قد أشبع فضوله وأغنى عالمه الرمزي، لون الظلمة ولون الحمار، ولغة الأسرار، ثم إن لليل أسرار كما للحمار أسرار أيضا. فلعله ركب حمارا في تلك الليلة..! ذهبت تلك الليلة في غياهب النسيان، وداستها أقدام الزمان مع الأيام. وربما سكنت بيتها المفضل: « اللاشعور»... تعلم هذا من فرويد، فلم يعرف مسكن أو مأوى بهذا الاسم قبل فرويد. صادف مرة أن قرأ حديثا لبورخيس وهو يحكي عن «فرس الليل» ويقول هو الكابوس الذي يأتي الناس في الليل. وزاد عجبه من التسمية الانجليزية لهذا الكابوس: « The nightmare» التي اشتهرت بها الأدبيات الأنجلوسكسونية، فقد جاء في أحد أبيات شكسبير : «I meet the nigthmare» وهو يقصد فرس الليل. ما هذا التناص في الأوهام وفي الألفاظ أيضا؟ «The nigthmare» ، « حمار الليل». حين تذكر كلام أمه وتمتماتها، تساءل، هل قرأت بورخيس أم شكسبير؟ بل ربما قرأت تأملات فكتور هوجو، فقد استعمل هو الآخر مفردة « cauchemare « للدلالة على حصان الليل الأسود. وهنا حاول إقناع نفسه باكتشاف علاقة ما بين هترفته وهذه المعارف المبثوثة في الكتب. ولكن كيف يكون عبور المعارف والأوهام عبر « حمار» ؟ هذا هو السر الذي ظلّ يؤرقه. أصيب بالدّوار حين حاول ربط حديث أمه مع كلام كل من بورخيس، فرويد وهوجو. وحينها اكتشف غموض وغنى كلام أمه وتذكّر أن أجداده مارسوا طرقا فكّوا بها معضلات من هذا النوع، وذلك بالعودة إلى البداية..، إلى الأول..، أي إلى التأويل.. الحمار حيوان مؤهل لهذا الدور، فهو صبور وباستطاعته حمل الأسفار مهما غلا ثمنها أو ارتفع منسوبها المعرفي، وقد ركبه الأولياء زهدا وتواضعا لقربهم من الأرض حين السير، مع أنّ العرب قديما كانت تتحاشى ذكر اسمه وكانوا يكنّون عنه، وقالوا أبو صابر وأبو زياد: زياد لست أدري من أبوه ولكن الحمار أبو زياد يبدو أن هناك اتفاق بين المخيال العربي والغربي حول هذا الحيوان، حيث قال بعضهم ينبغي استثماره وتأهيله لأدوار جديدة تليق بمقامه وبخطورة الزمن الذي نعيشه.أصيب بالرعب لما أدى إليه خياله وتفكيره وخشي أن يذيع صيت هذا الحيوان في بلده، وهو يعلم أن صوته المنكر ينذر بوجود خطر داهم.. الشيطان !، ذات يوم التقى بصديق له وكان ممن يمتازون بالنباهة ويفضلون السير في وسط الطريق، فعرض عليه كشوفاته. ابتسم الصديق وقال له: « أنت راه ضاربك حمار اللّيل « .