لم يكن صعبا على مولاي سعدية التي تجاوز سنها العقد السابع أن تسترجع ذاكرتها الخصبة وتسرد لنا أجمل لحظات حياتها عندما قامت بخياطة 5 أعلام جزائرية بأناملها غيرت بها مجرى زيارة رسمية لرئيس رابع أقوى دولة في العالم إلى عين تموشنت سنة 1960. طرقت *الجمهورية * باب منزل *سعدية مولاي* الواقع* بحي كاسطور* بعين تموشنت التي رحبت بنا وأخذت دون أن نوجه لها أي سؤال تسرد قصتها مع الرايات الوطنية التي جرت في ظروف صعبة حيث اتصل بها المدعو بن دهمة ميلود وهو فدائي بمدينة عين تموشنت وطلب منها هذه المهمة و سألها إن كانت مستعدة لها بدون خوف وكان عمرها آنذاك لم يتجاوز 16 سنة و كان لم يبق على زيارة ديغول للمنطقة سوى بضعة أيام فرحبت سعدية بالمهمة دون تردد حيث كانت تمتاز بشجاعة خارقة كيف لا وقد كان أخوها حسين مولاي الأكبر منها سنا فدائيا هو الآخر وهو الذي أعلم النظام أن أخته الصغرى بأنها ماهرة في الخياطة ولا تخاف كما أن والدته كانت هي الأخرى خياطة . * أسندت إليها مهمة خياطة الأعلام في سرية قبلت سعدية المهمة وراحت تبحث عن القماش فاشترت ما يلزمها من قماش في اللونين الأبيض و الأخضر إلا أن اللون الأحمر لم يكن متوفرا فراحت تبحث عنه في جميع المحلات التي كانت تُسير من قبل المعمرين آنذاك وكانت كلما سألت واحدا منهم عن القماش بلون أحمر يتعجب ويسألها ما حاجتك به فترد دون تردد بأنها بصدد خياطة فستان أحمر ولم يكفها القماش حيث أن المستعمر في تلك الفترة كان يترصد أي حركة أو عمل نضالي منها خياطة الرايات الوطنية و قد تعمد أصحاب المحلات من المعمرين إحداث ندرة في اللون الأحمر. مرت أيام ولم تجد سعدية القماش الأحمر وكان سي الميلود في تواصل معها وكان في كل مرة يزورها تؤكد له تعذر وجود القماش الأحمر وعندما تيقنت أنه لا وجود لهذا اللون في الأسواق خطرت لها فكرة و قالت لسي الميلود أن بإمكانها تدبر الأمر و قامت بتعويض القماش الأحمر بالخيط الأحمر و قامت بطرز الهلال والنجمة بطريقة فنية رائعة ظهر فيها العلم الجزائري بشكل جميل جدا . *طرزت الهلال و النجمة بالخيط لغياب القماش الأحمر بكل المحلات
بقيت سعدية تخيط في الرايات الوطنية الخمسة لمدة يومين متتاليتين فقد كانت تخيط ليلا و نهارا من أجل أن تكون في الموعد وكانت تسكن رفقة والدتها وأخوها المجاهد *سي الحوسين * بالطابق السفلي لعمارة كان سكانها كلهم معمرين حيث كان أخوها يعمل بشركة فرنسية و يأخذ أجرة شهرية وبالتالي كان له الحق في السكن بحي سيدي سعيد. *تخطيط مسبق للأحداث و رفع الأعلام انتهت سعدية من خياطة الأعلام الخمسة وطرزها وقامت بتسليمها لسي الميلود الذي بقي يتواصل معها طيلة مدة المهمة إلى غاية أن أخذها وقام بتوزيعها على الأبطال الفدائيين حيث كان مقررا أن يُعلق واحد بالبريد وآخر بالسوق المغطى وآخر بمقر الدرك و علم لأخيها من أجل أن يرفعه بساحة البلدية آنذاك و تسمى ساحة 9 ديسمبر حاليا .جاء اليوم الموعود وسمع كل من في عين تموشنت بمجيء رئيس فرنسا ديغول وكانت سعدية من الفتيات اللواتي حالفهن الحظ و حضرت الحدث و رأت الأعلام التي أخاطتها ترفرف عاليا حيث كانت مثلها مثل باقي الفتيات ترتدي *الحايك* *امرأة تخطف العلم المخبأ تحت قميص أحد الفدائيين و تشهره في وجه ديغول في هذه الأوقات كان أخو سعدية من ضمن الشباب الذين كانوا يهتفون بالاستقلال وكان العلم مطويا و مخبأ تحت قميصه وكان يرفع ذراعيه إلى السماء و يهتف تحيا الجزائر محاولا أن يجد الوقت المناسب والمكان المناسب ليشهر علم سعدية أمام الملأ و قد كان المكان يغص بالدرك و البوليس وما هي إلا لحظات وقامت إحدى السيدات التي كانت في قمة غضبها من التواجد الفرنسي و هي تهتف تحيا الجزائر نزعت العلم من تحت قميص *الحوسين* لما رأت جزءا منه يظهر من أسفل بطنه ورفعته في وجه *ديغول* *هتافات *تحيا الجزائر* أربكت الفرنسيين وهنا انقلب كل شيء بعين تموشنت وبالضبط بساحة البلدية ليُخرج بعدها باقي الفدائيين الأحرار الأعلام المخبأة و حينها كثرت الهتافات التي أربكت المستعمر حيث اختلط الحابل بالنابل ولم يستطع لا الأمن العسكرى الفرنسي ولا المدني أن يوقف غضب الشعب وامتدت المظاهرات إلى أن شملت كل شوارع وأحياء مدينة عين تموشنت. * توقيفات و تعذيب المخططين للأحداث تحقيقات العدو الفرنسي المعمقة أفضت إلى إلقاء القبض على الفدائيين الذين خططوا لأحداث 9 ديسمبر من بينهم سي مولاي الحوسين الذي كان عمره لا يتجاوز 21 سنة فزج به رفقة آخرين بالسجن بالمكتب الثاني بمدينة عين تموشنت وهنا ذاق رفقة زملائه في النضال كل أنواع التعذيب حيث طلب منه الجلادون أن يقّر بإسم المرأة التي قامت بخياطة الأعلام الخمسة وتحت التعذيب المستمر قال لهم بأنه هو من قام بخياطة هذه الأعلام .و تكفلت به سعدية و هو في السجن و كانت تزوده بالأكل واللباس كونها كانت فصيحة اللسان باللغة الفرنسية وجميلة جدا و نشيطة و تجيد التعامل مع الناس . *أعلام سعدية غيرت مجرى زيارة ديغول و بقيت في الظل كان يسمح لها بزيارة أخيها والتحدث إليه وكان كلما رآها يسألها بلغة الرموز عن أحوالها وإن كانت قد استجوبت من قبل المستعمر فكانت ترد عليه بالنفي. وبالرغم من التغيير الذي قامت به سعدية بخياطتها الأعلام الخمسة إلا أن هذه الشجاعة بقيت مخبأة لا يعلمها إلا الشهداء الذين استشهدوا من أبناء المنطقة و هي مقتنعة بالعيش الكريم تحت راية الاستقلال التي تفننت في صنعها ذات يوم 9 ديسمبر . وهي اليوم تعيش رفقة أبنائها الثمانية في سعادة تتذكر فيها أيام مجدها وشجاعتها وقد بقيت حرفية تخيط الملابس وتقدم العون لعائلتها بعد الاستقلال ولم يتم تكريمها من أي جهة تذكر على عملها الشجاع.