كانت وقائع ملتقى " تجليات النيوكولونيالية في سرد أمل بوشارب" يوم الخميس 06/02/2020م في جامعة تيبازة على درجة من الأهمية والمتعة معا نظرا للأوراق المقدمة من طرف الأساتذة وطلبة الدكتوراه والتي كلها انصبت على تحليل ومحاورة المتن السردي بالحضور الشرفي للكاتبة نفسها. وبعد الجلسات نظمت محاورة مع الكاتبة المتميزة حيث كشفت عن خبايا تجربتها السردية المثيرة والتي كان أخرها قصة " المتمردة" التي كتبت بالإيطالية ثم ترجمتها أمل بوشارب للقارئ العربي، وكان لأساتذة معهد اللغة و الأدب العربي السبق في بحث ودراسة هذه القصة في نسختها العربية. تبرز اللحظة السردية في أعمال أمل بوشارب بشكل طاغ في تسجيلها للحظة الوعي بالمرحلة المعاصرة، والتي تضج بالتناقضات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها الناس خارج دائرة الغرب المتمركز حول نفسه والمستأثر بمشاريع بناء وتوجيه الإنسان وفق برامج فكرية وسياسية وحضارية، تمتح مرجعياتها من براديغم كولونيالي ما زال حاضرا وفاعلا في بلورة وتصميم الوعي الحديث. لذلك ظهرت سرديات ما بعد كولونيالية تعالج الجرح الوجودي الذي يعاني منه الإنسان غير الغربي من خلال قصص وروايات تكرس لخطاب الهوية والخصوصية الحضارية، وتؤسس لخطاب أدبي وجمالي يوازي خطاب الهيمنة الثقافية السائر على خطى التقاليد الكولونيالية الجديدة. يمكن اعتبار البذرة التكوينية لقصة "المتمردة" لأمل بوشارب هي واقعة هزت إيطاليا في صيف 2019م، ونعتت حينها بقضية "ملائكة وشياطين"، وتتعلق بمنظمة تعتني بالقاصرين المعرضين للاستغلال، كشفت تحقيقات النيابة الإيطالية أنها كانت شبكة إجرامية تستغل الأطفال وتعمل على سحبهم من عائلاتهم الأصلية لتوكيلهم لعائلات أخرى مقابل مبالغ مالية كبرى. إلا أن الكاتبة تسقي هذه البذرة بماء الخيال وتحلق بها في الأفاق السردية مهيأة لها التربة الغنية والمناسبة من لغة وفكر وشعور متدفق. وتكتمل القصة في بنائها بعدما ارتوت من ينابيع الآداب العالمية والخرافة الشعبية البديعة وتتلبس شخصياتها صفات وأمراض هذا العصر، ويتحكم في خطاب وسلوك هذه الشخصيات البراديغم الكولونيالي المهيمن على فكر وأسلوب عمل المؤسسات الغير حكومية ذات البعد العالمي. إن أولى عتبات القصة التي تواجهنا هي عنوانها، ""المتمردة"، وهذا يحيل إلى أن الشخصية المشار إليها أنثى، وهو ما يربك القارئ بعد تعرفه على ثلاث شخصيات في القصة: لوتشيا، مارتشيلا وجميلة، ويسود الارتباك في نسبة التمرد إلى أي من هذه الشخصيات، وخاصة حينما تسرد الكاتبة صفات ومكنونات لوتشيا المضطربة والغير طبيعية وخطابها المثير الذي يخفي غابة من الأمراض والعقد القابعة في لا شعورها. وقد برعت الكاتبة في تصوير أوضاع هذه الشخصية وتفاصيل نزعاتها فهي " ..تحب النساء اللواتي يعشن الحداد.." وتسأل صديقات جدتها: «.. هل حزنت يوم توفي زوجك؟" «.. هل كان لونه مزرقا مباشرة بعد موته؟" كانت الأسئلة ذات نبرة صقيعية باردة برودة الشمال من العواطف وانتشار الجفاف الإنساني. " فلطالما اجتاحت لوتشيا رغبات جامحة في البقاء على اطلاع بعالم العنف بجميع أصنافه، جرائم قتل، إبادة جماعية، اعتداءات جنسية، والأخبار التي كان قوامها لدماء والمذابح والحروب الأهلية..". من حسن حظ لوتشيا أن هيأ لها الوضع العالمي المضطرب وجبة شهية من الأخبار والحوادث تروي ظمأها الوجودي، فما يحدث في الهامش مثير ومغري ويزيد من تضخم المتن الذي صنعته آلة إعلامية رهيبة استفادت ببراغماتية فاعلة من الانفجار العلمي في وسائل التواصل. وقد أصاب الذات الغربية الانتفاخ المرضي جراء تضخم المتن بالأفكار والسرديات التي صنعت هامشا لها تفرغ فيه نفاياتها. تستلم لوتشيا من صديقتها مارتشيلا ملفا خاصا بمهاجرة تدعى " جميلة" من أجل استجوابها واستثمار اعترافاتها ضمن برنامج منظمة تشتغل على معاناة الهامش لصالح المتن الكولونيالي الجديد. لكن "جميلة" تكسر هذا الحصار بإعلانها: "أنا لست خاضعة" وتسقط الصفقة من يد مارتشيلا الخبيرة في بزنس الحروب. وهنا تتغير موازين القوى داخل السرد وتقلب الكاتبة ببراعة الهامش إلى متن وتدفع بالمتن إلى الزاوية، وذلك باستثمار وقائع خرافة شعبية عالمية الموسومة " ذات الرداء الأحمر" Le petit chaperon rouge والتي كان لها فعل السرد المضاد للبرنامج المسطر من طرف لوتشيا ومارتشيلا ومن ورائهما الغابة المملوءة بالحيوانات المفترسة. كما كشف هذا المجاز الحيواني على حقيقة صور الغزلان التي تجوب حظيرة العالم: الديموقراطية العالمية، منظمات حقوق الإنسان، حرية التعبير، منظمة ذات الرداء الأحمر.. ما هي في جوهرها إلا ذئاب تبحث عن فريسة لها.