يسود السياق العالمي منذ بداية العشريتين الأخيرين - على الأقل - تنام مفرط للخطاب الشعبوي الذي وصل إلى تكوين تيار يميني متطرف ، ينادي بكل أشكال الكراهية و نبد الآخر لأنه مختلف ، ليس في التكوين الفكري فحسب بل و حتى في لون البشرة و المعتقد و العرق. الظاهرة ليس عابرة بل متجذرة و مستقرة أسست لها النازية و الفاشية اللتان كانتا متقوقعتين في اليسار و غذتها تيارات و أحزاب نهلت من الإديولوجيتين السابقتين و زادت عليها ليصبح لها أتباع يدافعون عنها بشراسة و غير مستعدين لترك المشهد السياسي سواء في أوربا أو الغرب عموما ، أكثر من ذلك يرغمون بلدانهم على تجسيد مطالب مستحيلة كطرد المهاجرين و إغلاق الفضاءات الجغرافية مثل شينغن و غيرها . و حتى عندما نتحدث عن لجوء بريطانيا إلى « البريكست « و خروج الأخيرة من الإتحاد الأوربي لأسباب اقتصادية فقد وجد التيار الشعبوي البريطاني ضالته في هذا الخروج مدفوعا إلى ذلك بمركب التفوق العرقي و التنموي على بلدان مثل ليتوانيا و استونيا و رومانيا مثلا . اللعب على حبلي الانفصال و التطرف و دون الدخول في الأسباب التاريخية لظهور الشعبوية الانفصالية داخل بلدان الغرب كما هو الشأن لإسبانيا مع كاتالونيا و الباسك و بريطانيا مع اسكتلندا و إيرلندا و إيطاليا مع شمالها( التيرول و البندقية ) و أيضا فرنسا مع الباسك و كورسيكا ، و ألمانيا مع بافاريا ، فإن هذه التيارات تلعب على حبلين أولهما السعي المستميت من أجل الاستقلال الذاتي لدى بعضها و ثانيهما تسريع محرك تطبيق أفكار التطرف الذي يسعى إلى التأثير في السياسة من خلال عدم الرضا بأي من القرارات الصادرة عن السلطة الحاكمة و الدخول معها في صراعات فكرية تشتغل على توطين كل ما هو شاذ ، من خلال نوع من الخطاب السياسي المائل إلى العاطفة لاستجلاب التضامن الجماهيري و هذا الخطاب يلجأ إليه الحكام بدورهم لقضاء مآربهم و بالتالي تصبح الشعبوية أداة لتحقيق غايات بتفكير سياسي متطرف رافض لتنوع البيئة المجتمعية التي تعد مشتلة تكوين النخبة السياسية ، و أيضا مؤمن بالتعارض حتى و لو كان من أجل التعارض . العدمية السياسية و وهم طرح البديل و إن كان الشعبويون موصوفين بالمشي وراء الأفكار المتطرفة فإرادتهم في الوصول صلبة لا تكسرها سياسة الرد من طرف السلطة الحاكمة أو منافسة الأحزاب المعتدلة لهم في الاستخقاقات ، و لا يتراجعون عن الوسيلة و الغاية و هذا من عوامل تعميرهم عبر سنوات و من نتائجه أيضا صعودهم إلى المشهد و الجرأة في الطرح و رفض المقترح بل و تطرح الشعبوية نفسها بديلا و في حال وصولها تستعيد القرار السياسي إليها و تبدأ حربها على من تعتبرهم أعداء و لنا في التجربة الأمريكية الأخيرة المثال الصارخ فقد صُنّف الرئيس دونالد ترامب ضمن الشعبويين . أكثر من ذلك فالشعبوية و العنصرية أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ، فالأخير دخل الحكم بإرث حقد ثقيل تجاه المكسيكيين و تعصب ضد المسلمين ما أبان عن محدودية معرفته بالسياسة الداخلية و الخارجية في بلاده ، باستثناء تعامله مع ملف الاحتلال الصهيوني لفلسطين ، ما وضع المصالح الإقليمية و الدولية للولايات المتحدة في خانة خطر . و يصف كثيرون الشعبوية الغربية بالعدمية السياسية باعتبارها لا تقدم حلا بقدر ما تؤخره و ترمي بأفكار تعصب في المشهد الداخلي لبلدانها و تسعى بها إلى توسيع دائرة تسلطها من خلال الهرولة إلى زرع أفكارها خارج حدودها و من هنا تبدأ معالم تدخل في شأن الغير. الاستثمار في الغضب و الإحباط و مما لا شك فيه أن التدخل في شأن الآخر إديولوجيا أو سياسيا تعبير عن إفلاس المتدخل - في دائرة حدوده - فيصير لزاما عليه تطوير ديمقراطيته بدل أن تبتلعها الشعبوية ، التي أثبتت التجارب القادمة من الغرب أنها تدرجت نحو زاوية اليمين فالتطرف في الفكر و الفعل صار ينافس السلطة الحاكمة في عقر دارها. و لكن كيف يحدث تأثيرها على الحكم ؟ . الشعبوية و إن كانت فكرا متطرفا فوسيلته في الوصول شعبية بامتياز ، فهي تلجأ دوما للاستعمال السياسي لزخم الغضب و العواطف المسيطرة على الطبقات الإجتماعية و إيهامها بانصراف الحاكم عنها و تتحيّن فرص ذلك و تعتبر « الانقلاب « على النخبة الحاكمة اجتهادا لفرض الإرادة الشعبية ، رغم أن بين الشعبوية و الديمقراطية فكرة محورية أساسها أن سلطة الدولة ينبغي أن تقوم على الإرادة الشعبة . ليس ثمّة اختلاف بأنّ الشعبوية التي صارت تطرفا ينزوي في اليمين أكثر من اليسار قد صارت واقعا في الغرب متسما بالقوة و يشهد عام 2016 صعود حركاتها إلى مقاليد الحكم و المقاعد البرلمانية سواء في بلدانها أو مؤسسات إقليمية على غرار البرلمان الأوربي الذي صار يجيد لغة الهروب إلى الأمام من خلال تخليه عن قضاياه الإقليمية و تصويب شراسة حكام الغرب تجاه المظاهرات المطالبة بالاصلاحات الاقتصادية و الاجتماعية و حشر أنفه في قضايا داخلية لبلدان لا علاقة لها برقعته الجغرافية.. ما يؤكد أن مفاهيم الديمقراطية قد طمسها ممحاة الشعوبية في الغرب و صار لزاما إعادة الحسابات و مراجعة الاختلالات و تصحيح الأخطاء لدى ذات الغرب.