دلف سعيد إلى غرفته ذات مساء حزين ، يسترجع ذكريات الماضي الأليم ،ذكريات الحبّ العابر الذي لم يكلّل بالسعادة ولم يتوج بالنهاية الجميلة، إنّه حبّ من طرف واحد ومن فؤاد واحد، وبينما هو غائص في بحار هذه الذكريات الأليمة إذ تجلّى له الشيطان في الغرفة المظلمة موسوسا له: عليك بالانتحار يا سعيد. ، لم الانتحار يا عدوّ الله ؟. انتحر وبانتحارك ستدخل تاريخ شهداء الغرام.. لا لن أنتحر من أجل فتاة لعوب. . انتحر.. . لا، اخسأ يا عدوّ الله .، وشرع في قراءة آية الكرسي ، فإذا بالشيطان ينتفض ،هنا جلس سعيد مطرقا مفكّرا في ذكرى تلك الحبيبة الهاربة من سجن هواه ، باحثة عن هوى آخر في سجن آخر، لم تكن فتاة أحلامه بل فتاة أوهامه ، باعت حبّه بأبخس الأثمان في سوق النخاسة،أين عهد الهوى الذي أبرمناه تحت أشجار الزيزفون؟، كانت البلابل والشحارير شاهدة على هذا العهد ، آه منك يا أيّتها الفتاة اللّعوب التي غرّها صخب الحياة وبهرج الهوى الكاذب. كانت هدى فتاة رائعة الجمال بيضاء غضّة طرية، كأنها مهرة جامحة أو لبؤة وديعة في أجمة بديعة،رآها لأوّل مرّة تمشي في الشارع مشية الحمامة الوديعة وتختال في مشيتها كأنّها غزال فار من بندقية صيّاد ماهر في اصطياد الغزلان الوديعة، سكنت هدى في قلب سعيد كما تسكن العصافير في أعشاشها صار يراها في كلّ شيء في مأكله ومشربه وملبسه ،صارت تطارده في أحلامه كما تطارد الشرطة اللصوص ، وكما يطارد الليل النهار،صار يفكّر في وسيلة تقرّبه من عرش حبّه الذي أقام خيامه في قلبه، لابدّ أن يصارحها بحبّه ويجثو تحت ركبتيها ، يشكو إليها غرامه ولواعج هواه، لم تكن هدى تعلم حقيقة هذا الحبّ وجوهره، لم تكن تعلم بأنّ سعيدا يهواها ويعبدها ويشرب خمر هواه وهواها حتّى الثّمالة، لم تكن تعلم بأنّ سعيدا يعشقها عشقا جنونيا وصارت خمره التي يشربها في كلّ حين وأوان ،لم تكن تعلم بأنّ سعيدا صار يراها في صورة كلّ فتاة يصادفها في هذه الحياة، تملّكته وتملّكها وصار لا يتمنى إلاّ هواها، هذا كلّ ما يريد في هذه الحياة. خرج سعيد ذات يوم ماطر من بيته مسرعا إلى الشّارع الذي تمر منه حبيبته فلم يجدها ولم يدرك لها سبيلا، لقد اختفت بسرعة كما يختفي البرق بعد لمعانه،وسرعان ما هطل عليه مطر الهموم فغمره من رأسه حتّى أخمص قدميه، وصار يبكي ويصرخ ويجري لا يلوي على شيء ، لقد ضاع الحبّ الوديع كما ضاعت الأندلس ، لم يعد للحبّ ذكريات ولا أيّام، لم تكن سلوة الحبّ إلاّ الألم الذي تصنعه الأيّام واللّيالي، لقد تاب سعيد من خطيئة الحبّ والهوى كما تاب آدم، لأنّه أضاع تفاحة الهوى بسبب حواء أوهامه،لقد أخرجته من جنّة السّعادة وأهبطته إلى أرض الشّقاء، ليدخل جهنم الذكريات الأليمة، آه منك يا حواء، يا عدوة آدم، صيّرتي الحياة نارا وجحيما وسعارا على أخضر الهوى ويابسه ، لقد صارت الحياة بسببك صحراء قاحلة يسيطر عليها لصوص الهوى الغلاّب، توبي إلى الله يا حواء لقد تاب آدمك من قبل، ستدفعين ثمن خطيئتك طال الزمن أم قصر، عودي إلى رشدك وأعيدي آدم إلى عرشه، عرش الهوى والغرام ، دعي آدم يعيش الحبّ ويسبح في بحاره ويصارع أمواجه. هنا صرخت حواء: لست المسؤولة، اسألوا نساءكم، هنّ المسؤولات عن ضياع هواكم وحبّكم، فلا تلوموني ولوموهنّ، هنا أفاق سعيد من سبات هذه الذكريات العميقة، وقال في نجواه : لقد صدقت أمّنا حواء،نساؤنا سبب أتراحنا وأحزاننا وشقائنا ، لا تثريب عليك يا أمّنا حوّاء، لقد عرفنا حقيقة نسائنا، ..نساؤنا كابوس مزعج وصحونا منه ،لكن بعد فوات الأوان، ..نساؤنا خمر عتيق أفسدت نشوته عقولنا ، فليتنا نردّ إلى عقولنا التي سلبت منّا منذ عرفنا النساء وألاعيبهنّ البهلوانية. خرج سعيد من غرفته المظلمة تاركا أحزانه هناك، وسار مسرعا إلى مدينة أضواء النّسيان، معلنا ميلاده الجديد ،وهناك تعرف على فتاة أحلامه الجديدة وكان اسمها " سلوى" لعلّه يسلو هوى هدى اللّعوب، فكانت سلوى سلوة لأحزانه وجلوة لأفراحه،صار سعيد سعيدا بسلوته هذه، يلهو ويلعب في مروج الهوى الماتعة ، لا يلوي على شيء،فسلوى هي معهده ومعبده، هي حلمه وحقيقته، هي جنّته وناره ، هي ملاكه وشيطانه بل هي حياته برمتها ونبراسه الأبدي.