تحتل مقولة "المنهج" مكانة بارزة في الكتابات الأدبية، وتتردّد على ألسنة النقاد، وهم يعالجون المطالب الفنية، وكأنّها المفتاح السّحري لكل معضلات الذوق ومغالق الإبداع الفني، بيد أنّها لا تتحدّد سبيلا واضحة في كلّ مقاربة وتصوّر، وتبقى في كثير من الأحايين عرضة للأهواء والنّزوات، تتلوّن بلون هذا وذاك، دون أن يستقر المنهج خطةً واضحة المعالم، بيّنة الحدود صارمة الخطوات. إذ يسارع عديدهم إلى رفض هذا النّعت، ودفع ذاك التصوّر، لأن طبيعة المادة تجبرهم على التماس كثير من المرونة في مقارباتهم، حتى تستغرق ما يريدونه للنّص الأدبي من تخريجات وتأويلات. ومازال التذّرع "بالعلمية" « Scientisme » عند الكثير منهم، لايستند في شيء إلى مفاهيم العلم المتداولة في الأوساط العلمية، بل يرضخ إلى تصورات باهتة للعلم والمعرفة العلمية، وهو ينشد شيئاً من الثّبات والاستقرار لما بين يديه من نتائج، أو ليُكسب خطواته "الذاتية" شيئاً من "الموضوعية" العلمية. قد يكون التّذرع بالعلمية لواحد من السببين، ولكنّه لن يرق أبداً إلى التصور الصّحيح للمنهج كما عرفه الغرب، عبر تحولاته الكبيرة ابتداء من القرن الرابع عشر إلى اليوم، وما يقف وراء هذا المصطلح من حيثيات معرفية، وعقائدية، وسياسية، وثقافية، واجتماعية... لأنّ النّشأة لم تكن -في حال من الأحوال- ذات همّ " علمي" بحت، وإنّما ارتبطت بالإنسان في بحثه عن ذاته، وعن علاقته ب "الله" وبالآخرين، وبالكون جملة. لقد تأسس المنهج - طريقة صارمة للبحث والاستقصاء - على خلفيات متقلّبة، مضطربة، تسكنها الثورة، والتّذمر والسّخط، وقد تسلّطت قوى اللاهوت على رقاب الناس، وأجبرتهم على اعتقادات ساذجة تتعارض في أبسط مقولاتها مع البديهة والرأي السليم، "مدعومة" بتسلّط الإقطاع وهمجيته التي باركتها الكنيسة. لقد كانت نشأة "المنهج" في هذا الخضم وسيلة للخلاص، يديرها "العقل" للإجابة عن أسئلة ملحّة تدور بخلد "الإنسان" منطلقة من أعماق ذاته، متسائلة عن كنهه، عن وجوده، عن صلته بالقوى الغيبية، عن العالم من حوله.. حتى غدا "الإنسان" وسط هذا الفيض من الأسئلة مركزاً للكون، منه تنطلق الأسئلة وإليه تعود، وهو الوحيد القادر على إيجاد الجواب الذي يطفئ لهيب حيرته. إنّ الإحساس بعزلة الإنسان في الكون، وبتفرّده، أنشأ رؤية - غاية في التّطرف- لازمت مقولة "المنهج" واتّشحت بها. تلك هي مقولة "الفردانية « Individualisme » والتي انبثقت عن العقل الذي اجتهد في الإجابة عن أسئلة الذات،فألبست الإنسان شيئاً من الاعتداد بذاته والاطمئنان لها، والرّكون إلى ميزاتها ومعيارها، وقد صارت مقياس كل شيء، حتى غدت سمة "الفردانية" مرادفة لنفي كل ما هو فوق الفرد متعال عليه، وقصر ميادين المعرفة على الفهم البشري فقط، وأنسنة الحقيقة([i]) وقد رأى فيها محلّلوا الحضارة الغربية قيمتين متنافرتين: الأولى أنّها سبب خراب الغرب الأخلاقي والقيمي. والثانية أنّها سبب تطوّر إمكاناته المادية الدنيوية([ii]). وتعود حقيقة الأولى إلى مبدأ "الاستحسان"، حين عملت الفردانية على اتخاذ الذات مرجعاً للحكم القيمي، فاستحسنت استناداً إلى الهوى. واستحسنت استنادا إلى العقل، واستحسنت استناداً إلى السلطة. وفي كل استحسان مدرج للهوى، يتحرّر فيه من كلّ قيد وضابط، ولا يؤول إلى حكمة، بل يظل عرضة لكلّ نزوة ومزاج. لقد شهد الغرب صورا بغيضة لمثل هذه التجاوزات، يمارسها دعاة "المنهج" أنفسهم، كما مارسها اللاّهوت ورجال السلطة. وتعود الحقيقة الثانية إلى التكالب على لذائذ الدنيا وتوفير أكبر قسط من الراحة والبذخ والتّرف، والتفنّن في المكتسبات والمقتنيات. لم يشأ بعض الباحثين فصل "الفردانية" عن "الإنسانية" « Humanisme » واعتبرهما مترادفتين، لأنّهما تفضيان إلى عين النتائج. بيد أنّ إطلاق لفظ "الإنسانية" على وعي خاص بفترة زمنية معينة تالية للفردانية. نلمح فيه محاولة توسيع "مجال" الفرد -رؤية وفهماً- إلى مجال الإنسان: ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وفيه محاولة "لاستعمار" الماضي والآتي من خلال بسط رؤية ووعي حاض بالأشياء والعالم، يسري على الكلّ. وفي "الإنسانية" هذا المعنى الشمولي الذي يتيح "للفرد" الغربي تفسير التاريخ وقراءة أحداثه من زاويته هو، وفرض قيمه وتصوراته على الأحداث والتّحولات التي عرفتها البشرية. وقد عمل المستشرقون والمستكشفون على تطبيق ذلك تطبيقا، جعل الفرد الغربي يقرأ التاريخ ويفرض فهمه الخاص على اللغات البائدة والكتابات الحجرية الغامضة(*) . ويحقّ لنا اعتبار "الإنسانية" في شكلها القديم المدخل الفعلي لتمركز الذات الغربية كما فكّكها "دريدا" "J.DERRIDA " أخيراً. فقد أتاح هذا التصور للذّات الغربية الزّعم في أن تكون منطلق كلّ معرفة وخبرة، وأنّها تحيل على ذاتها - بعد ذلك - كلّ فهم مغاير لها، فتؤمّمه لصالحها بزعم أو بآخر. إلاّ أنّ سلطان "الإنسانية" في استفحال بعدما خلعت ثوبها القديم لتلبس ثوباً آخر أكثر اتّساعا تدعوه "العولمة" "Mondialisation "، وتبتغي من ورائه أن يندرج "الباقون" في إطار رؤيتها الخاصة للعالم، والوجود، والقيم. ويمكننا الساعة الجزم بأنّ "المنهج" الغربي إنّما تشكّل من قاعدتي "الفردانية" و"الإنسانية"، وكل بسط للمنهج" لا يأخذ في حسبانه هذه الحقيقة، لن يفلح كثيراً في التعرّف على حقيقته مفهوماً وتصوراً، قبل التّعرف عليه أداة وسبيل إجراء. إنّنا نبصر ذلك من خلال تلك الجهود المضنية التي بذلها الفرد الغربي بعد الثورة "البروتستانية" "Protestante " الاحتجاجية، لمساءلة الذات، والعالم والوجود، متجرداً من كل عون خارجي علوي، قد يمثله النّص المقدس، أو الأباطرة القائمين عليه، أو الشّراح. لقد وقف ذلك "الفرد" في عزلة -حتى وإن سكنته المقولات المسيحية اليهودية، والفلسفات اليونانية الوثنية - يجيل الطرف في آفاق رحبة من الفضاء والكوّن، ينحت من ذاته الجواب الشّافي. وإذا كنا نعرّف المنهج ب "ديكارت" "Descartes " انطلاقاً من مفتتح مقالته، والتي يعوّل فيها على خاصتين يشترك فيهما البشر عامة:" الفطرة السليمة" و"العقل" فيقول: » إنّ الفطرة السليمة هي القاسم المشترك لجميع البشر" والتي تعني أن "العقل بطبيعته واحد عند الجميع« ([iii]) وهي عبارة توحي وكأنّه لا فارق يذكر بين أبناء البشرية، وأنّ هذا الفهم يجعل "العقل" أيّ عقل، مناط التّشريف في الإنسان. وقد رأت فيه "جنيفياف روديس لويس" "G.Rodis -Lewis " المثال الأعلى للديمقراطية، وكأنّها تدرك حقيقة الخلفية التي يقف عليها المنهج دون أن تفصح عنها. وترى كذلك في الجملة الختامية التي أنهى بها "ديكارت" مقالته:"يجعلنا (العقل) أسياد الطبيعة ومالكي زمامها" إشارة إلى تقدّم العلوم التقنية، قائلة : ».. كان يؤذّن بتقدم العلوم تقدماً يؤدي إلى تغيير الإنسان نفسه« ([iv])، وتختم ملاحظاتها تلك قائلة: » ويعتبر "ديكارت" أب الفلسفة الحديثة بإخضاعه إدراك الوجود لأولوية الكائن المفكر«([v]). وتلك قراءة لا تجد أحقّيتها إلاّ في إحساس الفرد الغربي بعزلته أولاً، وبمحاولته المستميتة لإيجاد الأجوبة عن العالم. فهي تحتفل بكون الوجود خاضعاً للذائقة الفردية.إنّها تؤمن أنّ العلاقة التي أنشأها الإنسان الغربي مع الطبيعة لن تقوم أبداً على المهادنة والسّلم، بل على الصّراع.. لقد كانت العلاقة القديمة قائمة على التجانس، ثم بنتها الفلسفة على التسلّط والقهر ابتداء من السفسطائيين الذين نعدهم- بحق- السّلف الأول للعقلانيين على اختلاف مشاربهم. إنّ إرادة القهر والتسلّط، التي سكنت الفرد الغربي، جعلته يسعى حثيثا إلى تدجين كلّ السّبل والوسائل من أجل الإحاطة بالأشياء في أقصر وقت ممكن، وبأقل جهد، وأن يسحب الناتج على المجانس والمماثل، فكان "المنهج" تلك الأداة الطيّعة في يده، يدفعها لتذليل كلّ صعب. صحيح أنّ وضعيته الأولى لم تكن تبيّت مثل هذا الزّعم، ولكنّ فتوحات المعرفة نفخت في معاطسه وزجّت به في دوامات الفروض والتحقيقات الجديدة، وأكسبته خبرة المبادرة، ونزعت من صدره مادة التهيّب والإحجام والخوف التي أقعدته من قبل، فأقبل سافراً على الوجود يعاركه ويصارعه. قد يبدو الحديث عن "المنهج" -بهذه الصورة- أمراً غير مألوف، ونحن ندعو في كلّ حديث وكتابة إلى الالتزام "بالمنهج"، إلاّ أننا في هذا الموقف نروم حقيقة واحدة، مفادها. أنّ "المنهج" ليس مقولة فارغة يمكن أن نشحنها متى شيءنا، وأن نصبغ عليها اللّون الذي نريد، لكنّ "المنهج" وعي تلبّس واقعاً غربيا حراً، تدرّج عبر أعصر عانى فيها الأمرين، قبل أن يستتبّ أمره، وتستقر عصاه. ومصطلح "المنهج العلمي" على هذه الصورة - التي ندعو لها في المحافل العلمية - ليس أمراً خلواً من حمولاته التاريخية والفلسفية. فالغرب ما زال ينظر إليه من زاوية المكابدة التي عاشها قبل أن تتحقّق له الهيمنة المطلقة على أفكار الناس ومعاشهم، وإن كنا لا نرى فيه - نحن العرب - إلاّ ظرفاً فارغاً نقيم فيه ادعاءاتنا العلمية