إزاحات محمد جعفر كنت قد اكتشفت بالصدفة وفي مجلة إلكترونية نصا أدبيا شعريا (أو هكذا قُدم) صاحبته دكتورة جامعية لم أعرفها مبدعة (وربما تحاول ممارسة الأدب تقليدا بعد الموضة التي اكتسحت المواقع الاجتماعية والإلكترونية). قرأت نصها وحاولت تذوقه لكني لم أستسغه فقمت بتحميله وإرساله إلى مجموعة من الأصدقاء ممن أثق في ذوقهم الأدبي وأتوسم فيهم المهنية والصدق خشية أن يكون حسّي الجمالي قد أصيب بعلّة أمام نصها، لكني وجدتهم جميعهم يجمعون على أن نصها لا تتوافر فيه أبسط مقومات الجمال والأدب؛ وتأملت المشكلة على وجهها الآخر.. كيف يمكنني أن أثق في الأحكام التي تصدرها هذه السيدة التي ما فتئت تقدم لنا كتبها النقدية وتزود المجلات (المحكمة) بدراساتها المختلفة مادام حسها الجمالي وذوقها قد صوّر لها أن نصها المنشور يعد علامة فارقة في الأدب ويستحق الاحتفاء به من خلال نشره تحت مسمى الشعر.. أم حقا أن الأمر مختلف! إن من يعتقد أنه يمكنه أن يكتسب الذوق الفني من خلال التحصيل الأكاديمي أو الشهادة أو من خلال (لايكات) المتابعين يكون مخطئا، فالأدب ليس الميكانيكا وليس ما ينطبق على المحرك الواحد ينجر على كافة المحركات الأخرى.. كذلك يكون أساس النقد الذوق وهو الفاصل وهو الملكة التي ندرك بها نتاج كاتب ما، وما يمنحنا القدرة على إبصار الجمال وتقديره، وهو الفاصل والمفصل.. كذلك هناك من يقول إن التذوق لا يكون إلا عبر الفهم (هذا الفهم الذي تقدمه المخابر والجامعات) لكن يمكننا أن نقول أيضا إن هذا الفهم لا يمكنه أن يكون مكتفيا بذاته ويجب أن يتعدى إلا كافة المجالات والمعارف، وإلا كيف يمكن أن يحكم الناقد الأدبي على رواية تعالج قضايا علمية أو فنية كغزو الفضاء أو رقص الباليه أو موسيقى الكمان أو الرسم الانطباعي، وهذا دون أن نتطرق إلى مَلكة الإبداع! إن الذوق لا يمكنه أن يتطور في المخابر وحدها، لأن للفعل القِرائي والتجربة الجزء الأكبر في تكوينه وتنميته وتطويره، وعليه يمكننا أن نجد الحس الجمالي متطورا عند القارئ العادي من خلال فعله القرائي المتعدد، فالقارئ الإيجابي يكتسب المهارة اللازمة من خلال كم النصوص التي اطلع عليها ومن خلال المقارنة التي يعقدها بينها في محاولته لاكتشاف ما يميز بعضها عن بعض؛ ويصلح هذا كذلك قياسا عكسيا على الناقد الذي لا يمتلك هذا الشغف القرائي (ونقصد هنا قراءة كل الذي يصدر وليس بعضه فقط). ومن خلال ذلك فقط يمكننا القول إننا اكتسبنا حسا جماليا وذوقا يمكن الوثوق به.