تفسير المؤمنين للشيخ ابو جرة سلطاني الحلقة 24 وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ولأن أقرب ما يفكر فيه الإنسان هو طعامه وشرابه ثم زواجه ونسله، وهي أساسيات الحياة التي ضمنها الله لآدم(ع) في الجنة بلا أسباب، وضمنها لمخلوقاته جميعا بالتسخير والتماس الأسباب، فإن المؤمن وهو لم يدخل الجنة بعد- يقيس كل نعيم على ما يعرفه في الدنيا بمعايير حركة الحياة ومقوّمات الوجود، فالطعام والشراب مقوّمان لحفظ النفس، والزواج سنّة للمحافظة على استمرار النسل، هذا في الدنيا، أما معايير الآخرة فشيء آخر، ولكن الله يتعامل مع البشر بمقاييسهم لا بقدراته ويحدثهم بلغتهم المحاكية للأسماء كلها وليس لكلامه الذي "ليس كمثله شيء" لأنه كلام الله، لذلك بشرهم بما يحبون أن يبشروا به، وماهم قادرون على تصوره واستيعابه، تماما ولله المثل الأعلى- كما يبشّر الوالد ابنه بأنه سوف يشتري له دراجة أو سيارة أو يأخذه في رحلة نزهة معه إلى بلد بعيد..فإن الطفل "يستوعب" معنى السيارة ومعنى الدراجة، لأنه رآهما، أما الرحلة إلى بلد بعيد، فلا يتوعبها حتى يتحقق وعد والده بالسفر إلى هذا البلد البعيد، وكذلك بشرى الله للمؤمنين بالجنات التي لم يروها ولا يمكنهم تصورها إلاّ في مخيال له صلة بالواقع "وبشر المؤمنين أن لهم جنات"، هكذا بالجمع لأن الجنة درجات وكل درجة هي جنة جديدة تختلف عن أختها بما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون"، لأن إيمان المؤمنين ليس واحدا ودرجة العمل ليست درجة واحدة ويقينهم في الله ليس واحد، فمنهم مؤمن، ومنهم مسلم، ومنهم من يزيد على درجات الإيمان وأعمال الإسلام درجة أعلى هي الإحسان، كما بين ذلك جبريل(ع) للمصطفى (ص) في حديث الإيمان والإسلام والإحسان وعلامات الساعة، فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسند ركبته إلى ركبتيه، ووضح كفيه على فخذيه، وقال " يا محمد أخبرني عن الإسلام "، فقال له "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا "، قال "صدقت"، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال "أخبرني عن الإيمان " قال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال " صدقت "، قال " فأخبرني عن الإحسان "، قال "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال " فأخبرني عن الساعة "، قال "ما المسؤول بأعلم من السائل"، قال "فأخبرني عن أماراتها"، قال "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان" ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال "يا عمر، أتدري من السائل ؟"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. رواه مسلم. وقد بين القرآن الكريم أن المؤمنين ليسوا سواء كما أن الكافرين ليسوا سواء، فهؤلاء على درجات متصاعدة وأولئك في درجات متنازلة " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" البقرة: 148. لذلك كانت الجنان جنات: جنة المأوى، وجنة عدن، والفردوس، ودار السلام، ودار الخلد، وجنات النعيم..الخ، وما دام المؤمنون لم يروا هذه الجنات فإنهم لا يستطيعون استيعاب الحديث عنها إلاّ بألفاظ لها معان في عقولهم و"مجسّمات" في تصوراتهم وإدراكهم ليطلقوا الخيال للتصور البعيد، فبدأهم بجنات تجري من تحت الأنهار، والعقل يملك أن يتصوّر معنى جنات كثيرة فيها أنهار كثيرة جارية، فبالتجربة والمشاهدة يعرف الإنسان أن الماء إذا كان جاريا فله مصدر ينبع منه لا يتوقف، وأن الجنان إذا كانت خضراء فلها ثمار تينع وتتنوَّع، وظلال، وأزهار، وأطيار..ولكنه (جل جلاله) يضيف شيئًا "مفاجئا" للمألوف البشري، فكل ثمرة تشبه أختها ولا تشبهها، كما قال تعالى : "مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ" الأنعام: 99، وكما قال كذلك "مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ" الأنعام:141 ، كأنه متشابه ولكنه غير متشابه، فهو "مشبه" على من يتذوّقه هل هو ما سبق أكله أم هو ثمر جديد، فالأمر مشتبه على أهل الجنة لكثرة ما فيها من النعيم " كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا" البقرة: 25، كلما رأوا ثمرة خيّل إليهم أنها مثل ما كانوا قد ذاقوه من قبل، لكن عندما يتذوقونها يجدون أن طعمها مختلف وأن الأشباه والنظائر هي متعة أخرى للعين وجمال للخواطر، وتسلية إضافية للقلب وشهوة جديدة للنفس و"رياضة" مسلية للعقل..وإلاّ لماذا يقول بعضهم لبعض "هذا الذي رزقنا من قبل" كأن بعضهم يمازح بعضا ويداعبه ويباريه بالتعرّف على طعم ثمرات جديدة تشابهت أشكالها وتقاربت ألوانها واختلفت طعومها وروائحها ودرجات الإستمتاع بها..هذا إذا فهمنا "من قبل" على أنها "قبلية" الجنة، أما إذا حملناها على أنها مقارنة بين ما كانوا يأكلونه من ثمرات الدنيا، فإن القياس يصبح نسبيا، لأن أكثر أهل الجنة لم يأكلوا شيئا مما في الدنيا من ثمرات أو أكلوا منها شيئا يسيرا، أو أكل بعضهم دون بعض، فمن أكل الكثير منها وأسرف في الأكل وبالغ في العبّ من لذائذها انزلقت به قدم الحلال إلى أوسع دائرة المباحات ومنها إلى حدود الشبهات، ومنها إلى الرَتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالحلال بيّن والحرام بيّن، لما ثبت عن رسول الله (ص)، فعن النعمان بن بشير( رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول "إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وأن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، رواه البخاري ومسلم، ولبعض أهل اللغة كلام لاحق، ومع ذلك فأساليب اللغة العربية تتحمل هذه القراءات كلها، فأهل الجنة عندما يرون ثمارها تنطبع في أذهانهم صورها بصوّر فواكه كانوا قد أوتوها "من قبل" في حياتهم الدنيا، فإذا قطفوها أو قُطفت لهم أوتدنّت فتدلّت، كونها فاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة- وجدوها مختلفة عن فواكه الدنيا.
وفي الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ومع رزق الله المنعم بغير أسباب، ومع كثرة الثمرات، متشابهة ومشتبهة وغير متشابهة، يضيف الله رزقا آخر هو "أزواج مطهرة" وخلود في الجنة دائم، وهي إضافة لها دلالة عميقة في نفسيات الناس، عندما يواجههم المنهج الإيماني بحديث الطيبات والخبائث في الدنيا، التي توقع الكثير من الناس في مأزق الذهاب بالطيبات الأخروية بخبائث دنيوية "وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" الأحقاف: 20.
فالمتمسكون بالمنهج يأخذون من طيبات الدنيا ما يتم به واجب التمكين للمنهج لأنهم يعلمون أن متاع الدنيا قليل، وأن الحياة هي حياة الآخرة. أما المفصولون عن المنهج فلا حياة لهم إلاّ الدنيا ولا هدف لهم إلاّ العبّ من شهواتها ومتعها وحلالها وحرامها..لذلك ينهكون "رصيدهم" من الطيبات في حياتهم الدنيا، فإذا قاموا لله رب العالمين وجدوا الزقوم والغسلين والمهل..فيقال لهم "أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا"، لذلك استحق المستمسكون بالمنهج هذه البشرى، واستحقوا، بفضل الله ورحمته، هذا النعيم المقيم، جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها من كل الثمرات تشتبه ولا تتشابه و"أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ".
لا أدري لماذا ينصرف ذهن كثير من المفسرين، عند ذكر هذه الآية إلى الإناث دون الذكور وإلى "واحد" الزوج المؤنث دون "واحد" الزوج المذكر مع علمهم أن لفظة "زوج" لا تعني إلاّ "اثنين" ذكرا وأنثى، ولا يصح أن تطلق على متجانسين "مثليين"، فعندما أمر ربنا (جل جلاله) نبيه نوحا(ع) بأن يأخذ في سفينته، قبل الطوفان، من كل نوع زوجين إثنين، فُهم أن المقصود هو ذكر وأنثى، وليس من كل ذكرين اثنين ومن كل أُنثيين اثنتين لأن الله هو القائل "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى" النجم: 45، ففسروا الزوجين بأنهما اثنان ذكر وأنثى، لذلك عندما نقرأ هذه الآية فيجب أن نحملها على هذا الفهم المتبادل والمتقابل والمتكامل : فالرجال لهم في الجنة زوجات مطهرةوالنساء لهن في الجنة أزواج أطهار، وكلاهما مجازَى ب "أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ" .
إذا كان أهل اللغة يجمعون الإناث والذكور على ترجيح التذكير، ولو كان مع النسوة طفل واحد، فهذه مسألة لغوية تم تقعيدها لاحقا، في أزمنة عصور الإحتجاج، وهي شأن لغوي بشري، لا ترقى إلى أن تصبح قواعد ملزمة تقيد طلاقة كلام الله تعالى، لأنه سابق للغة أزلا، واللغة إنما تم تعقيدها على منطوق القرآن الكريم وتطويع ضوابطها على كلام الله وليس عكس ذلك، ولذلك يكثر في القرآن الكريم ما يسمى ب "كسر الإعراب" حتى لا يقال هذا "شذوذ" عن القاعدة الإعرابية (اللغوية النحوية أوالصرفية أوالإملائية)، التي سوف نعرضها في حينها إن شاء الله، لكن من الواضح أن لفظة "أزواج" تستغرق الجنسين، فالمنهج الإيماني واحد للنساء والرجال والذكور والإناث، فلماذا تكون للرجال "حظوظ ملكية" خاصة في الجنة لا يكون للنساء فيها حظهن الكامل؟
هكذا أفهم قوله (عز وجل) "وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ" على أنها امتلاك مشترك وزواج مشترك وطهارة متبادلة، لأن الله سوف ينزع حظ النفس من النفس وحظ الشيطان منها وينزع ما في القلوب من غل فيصبح كل من في الجنة طاهرا على منهج الأخوّة الذي يليق بهذا المقام الرفيع، أما أحاديث "الطهارة الحسية" فمكانه الدنيا وليس الجنة التي لا تسمع فيه لاغية، وسوف تختفي كل مظاهر التراب وشهوات الأنانية والحسد والحقد والإنتقام والغيرة..وجميع نوازع الشر ووسوسات الشياطين ونقائص النفس البشرية، وتسود حياة جديدة بمقاييس جديدة وسلوكات جديدة وعطاء جديد هو عطاء المسبب لا عطاء الأسباب، وإذا كان المؤمن في الدنيا قد عاش مع نعم الله فهو في الآخرة سوف يعيش مع المنعم (جل جلاله) عندما تصبح الأسباب نفسها نعمة وليست تكاليف، كما كانت في الحياة الدنيا، ولا تترتب عنها تبعات ولا تشوبها منغّصات ولا مخاوف..فهي طاهرة بلا أسباب تسبقها ولا "فضلات" تنتج عنها، وفوق كل ذلك هو خلود دائم..لأن الموت يأمره خالقه الديان بالموت، فيموت.
إلى هنا تنتهي حولة القرآن في هذه السورة- مع مواقف الناس من الهداية وكيفيات استقبالهم لمنهج السماء وتحنّن الله لهم بالخلق والرزق ليعودوا إلى الجادة، وبشرى الله لمن آمنوا وعملوا الصالحات، ثم يبدأ بعد هذه المقدمة الحاثّة على الإيمان الأكيد بمصدر الهداية والتركيز على "مصدرية" الوحي، فمن سلّم ابتداء بأن الله هو الخالق، الرازق، الهادي، المعبود..وجب عليه أن يؤمن بالغيب، ثم وجب عليه أن يسلم بعد ذلك وفي كل حالاته وظروفه- بما يأتيه من عند الله حتى لو تعلق الأمر بضرب مثال لا تدرك العقول فحواه لأنه مثال يتحدث عن "بعوضة" فلا تشغلوا أنفسكم بالبعوضة وإنما ارفعوا رؤوسهم إلى جلال الذي ضربها لكم مثلا "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)" البقرة :26 /27.