ولأن الملّة واحدة، لأن أصل الدين هو التوحيد، فإن شهادتنا على الناس قائمة عليهم ما تمسكنا نحن بهذا الميراث، والتزمنا بهذا المنهج، وأقمنا الحجة من أنفسنا بقدوتنا عليهم، كونه عهد الله للرسل والأنبياء ولأتباعهم وأنصارهم وذريتهم أجمعين، بصرف النظر عن جنسهم ولونهم ولغتهم.. سوف تتكرر معنا، في هذه السورة صيغة :" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" ثلاث مرات، لترسخ معنى جديدا في أذهاننا، عن هذا الصنف من الناس، في مجال الممارسة والسلوك، وليس على مستوى الجنس فحسب، لأن الله تعالى لا يتعامل مع خلْقه فيما هو تسخير وجبْر ( الخلقة، الجنس، اللون، والجغرافيا..) وإنما يتعامل معهم على أساس تعاملهم هم مع منهجه "إن الأبرار لفي نعيم"الانفطار31، مهما كانت خلقتهم وجنْسهم ولونهم ومحلّهم الجغرافي "وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ" الانفطار: 41، بصرْف النظر عن طينتهم وذكورتهم وأنوثتهم وسوادهم وبياضهم وصفْرتهم وحمْرتهم أو القارّة التي خلقهم الله فيها والأرض التي وُلدوا عليها، أو الزمن الذي اختاروه لأنفسهم مكانا للعيش، لذلك فإن تكرار صيغة " أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" ليست خاصية مادية مرتبطة بجنس معيّن من الناس، إنما هي رمزية إيمانية يكثر دورانها حول كل قوم سلبتهم نعم الله فضل شكره أو تكاثرت نعم الله عليهم وطال عليهم أمد الرخاء، فنسوا المنعم وظنّوا أن "نعمه" عليهم هي تسخّير أسباب هم "سخروها" لأنفسهم بأنفسهم، أواستثمروا فيها بعلم عندهم!! لذلك ارتبطت صيغة "أذكروا نعمة الله عليكم" بلحظات الغفلة وفترات النسيان، أو بمراحل الإنتفاش الفارغ والاستكبار المضل، فتأتي هذه الصيغة لتطرق أبواب القلوب الغافلة والعقول الساهية والنفوس اللاهية والمشاعر المستكبرة ..في لحظات تتعارض فيها شهوات النفس مع منهج الله، أو في مواقع ينسب فيها الفضل لغير الله، فيأتي التذكير بالمنعم حتى لا تكون النعم فاعلة من تلقاء نفسها، وهي صيغة عامة ولكنها شديدة الإلتصاق ببني إسرائيل ربما بسبب إسرافهم في نظرتهم المادية للحياة إلى درجة أنهم اتخذوا العجل معبودا، وطلبوا من نبيهم أن يروا الله جهرة!. فمن يتذكر نعم الله عليه يتواضع للمنعم، ومن ينسى ماضيه ويعتقد أنه وُلد قويا وغنيا ونافذا وذا سلطة وشوكة..يغتر بهذه المظاهر الطارئة عليه والزائلة عنه بيقين، إما بتركه مفلسا أو بتركها في الدنيا مكدسة بين أيدي الورثة بعد أن يغادر هو الحياة عاريا من الدينار والدرهم كما دخلها أول مرة، فيتذكر ما كان قد جمع وما كان قد أنفق، وعلى كل مخلوق أن يذكر الله: كيف كان قبل القوة؟، وكيف كانت حاله قبل الغنى؟، ومن أين جاءه النفوذ؟، وكيف قبض على السلطة ونبتت في جنباته أشواكها؟، فقد ذكر الله المؤمنين كيف كانوا قليلا مستضعفين في الأرض وكيف كانوا أعداء قبل مجيء الإسلام فساق الله لهم نعمة الإسلام فوحّد صفوفهم بعد أن ألّف الله بنعمته بين قلوبهم: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" آل عمران: 301، وهو (سبحانه) صاحب النعمة على أصحاب رسول الله بكفّ أيدي خصومهم عنهم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"المائدة: 11 ، وهو (سبحانه) صاحب النعمة الكاملة عليهم في غزوة الأحزاب إذْ كفاهم بنعمته شرّ القتال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا" الأحزاب: 9:، لكن المسألة مع بني إسرائيل ليست مجرد تذكير بنعم سابقة حباهم الله بها في زمانهم مع رسلهم وأسبغها عليهم ظاهرة وباطنة، إنما هي قاعدة عامة ومضطردة إلى درجة الإحساس بالاستغناء بالنعم عن المنعم، تماما ولله المثل الأعلى كما يفعل من تستضيفه في بيت وتأذن له بالتصرف في كل ما في البيت من نعم وتترك له المفتاح وتنصرف فلما تعوده لمراجعته أو لزيارته أو للإطمئنان عليه، بعد حين يتنكّر لك وينسى أنك صاحب البيت وأن كل ما يعيش فيه من نعم إنما وُضعت بين يديه وتحت تصرفه بفضْل جهدك أنت لا بفضل جهده هو، كونه طارئا على "ملكك" ومستهلكا للنعم، وليس منتجا لها، وما أنت صاحب البيت ومالك ما فيها، وهو الضيف الطارئ على بيتك والمستهلك لنعمك فيه، إلاّ نعمة من نعم الله، فكلاكما من فضله كنتما وبفضله جئتما، وبنعمه أنتما ضيفان وعاريتان بانتظار رحيل وشيك، وما أنت (صاحب البيت وما فيها)، وهو (الضيف الطارئ على بيتك المستهلك لنهمك) إلاّ نعمة من نعم الله، فكلاكما من فضله وبفضله أنتما ضيقان، فإذا كان هذا المثال البشري صادم لعواطف الكرام وخادش لمشاعر ذوي المروءة، فكيف إذا تعلّق الأمر بصاحب النعمة المطلقة على الناس أجمعين، الله رب العالمين؟!. إن الله (جل جلاله) يعلم كيف تعمل النفس البشرية لأنه خالقها، لذلك يقول للناس جميعا إذا نسيتم المنعم لأنه قد يكون بسبب الغفلة غائبا في ضمائركم أو مغيبَّا من عقولكم المأخوذة بما بين أيديكم من "مادّيات" ظاهرة، فاذكروا مصادرها: من أين جاءت؟ من وهبها لكم؟ من "سخّرها" لتكون في خدمتكم ؟، هل النّعم تطرق أبواب الناس وتملأ "جيوبهم" وتُشيع البهجة في نفوسهم والسرور في قلوبهم، لأن بينها وبين الناس علاقة خدمة أو بينهم وبينها صلة أرحام ونسب!!، أم أن الله سخّرها لهم لأنه الرزّاق الوحيد في هذا الكون ؟، أليس الله هو القائل للناس جميعا "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ" فاطر: 3، هذا هو الدافع الفطري (الغريزي) الذي جعل هذه الصيغة البلاغية تتكرر مع بني إسرائيل ليربطوا المنهج بالنّعمة، فإذا حصل هذا الربط في لحظة ذكْر نعم الله عليهم أدركوا أن الذي رزقهم النعم المادية هو نفسه الذي رزقهم النعم المعنوية، وأن قمة النعم في هذا الكون، هي نعمة الإيمان، نعمة الإسلام، نعمة المنهج الإآهي الذي لم يشرَّف شيئا من نعمه بنسبته إليه ذاتا ولا صفة ولا فعلا، وبشكل مباشر مثلما شرَّف منهجه إلى الناس فجعله نعمته المنصوصة"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" المائدة: 3، و" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" ذلك أن كلّ نعم الله – عدا منهجه هي نعم ربوبية أما منهجه، ومنهجه وحده، فهو نعمة الألوهية، فالله يرزق الجميع، ويأتي الملك من يشاء، من المؤمنين والكافرين، وينزعه ممن يشاء من الموحَّدين والمشركين، ويحيي من يشاء ويميت من يشاء ويعزّ من يشاء ويذّل من يشاء (عزّة تمكين وشوكة وسلطان، لا عزة تشريف ودعوة إيمان) من جميع عباده لكنه (سبحانه) يختصّ بمنهج التكليف من اختاروا هداية الله منهجا لحياتهم، ولم يربط بين عطاء الربوبية العام للناس أجمعين وعطاء الألوهية الخاص بالمؤمنين بأيّ رابط مادّي ولا معنوي، فليس الإيمان مرتبطا بالرزق ولا "الخبْز" مرتبط بالشهادتين فمن آمن رزقه الله ومن كفر به رزقه، ولكن التكليف بما هو من العبادة خاص بأهل الإيمان وحدهم، فمن لم يؤمن بالله ربا لا يكلفه الله بتحمل تكاليف منهج الإيمان، وإذا نسيَّ الإنسان نعم الله عليه، وظن أنه هو الذي أنعم بها على نفسه، فلا أقل من أن ينسب فضلها لصاحبها عسى أن يردّ الفضل لصاحب الفضل، وعساه بشكر الناس- يتذكر المنعم على الناس جميعا فيستدرك شيئا من الشكر المستحق للذي أنعم على الناس جميعا، فالعاجز عن شكر من أحسن إليه من خلْق الله هو أعجز وأبخل من أن يذكر المنعم، وذلك هو معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن حبان وغيرهم، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعا "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" وصححه الألباني، فشكر الله واجب، لأنه يتحبّب إلى خلقه بالنعم، وإذا أنعمت عليك بما أنعم الله عليّ كان ذلك مدعاة لحبّي، فإن لم تكن قادرا على حبي فلا تتجرأ على سبي!؟، وكذلك الحال الذي خاطب به الله بني إسرائيل: إن لم تكونوا قادرين على استخدام نعم الله المسخّرة لكم في طاعته فلا تستخدموها في معصيته، وإن عجزتم عن أن تشكروا الله لذاته فاشكروه على نعمه بتذّكر أنها من عند الله وبردّها لمصدرها وعدم نسيان ما لا يليق نسيانه. رُبّ سائل يسأل: وكيف ينسى الإنسان نعم الله عليه ؟