باقتراب المعرض الدولي للكتاب بدأ النّقاش حول ظاهرة التّسابق في النشر من أجل التظاهرة يتصاعد، وانقسم النّاس بين مؤيّد لهذا التنافس معتبرا إيّاه ظاهرة صحيّة، لأنّ المعرض مناسبة ثقافيّة جديرة بأن يتنافس الكتّاب في اغتنامها، وبين مُنَدِّدٍ بالطّابع الاستعجالي والاستعراضي الذي يطبع كثيرا من المؤلّفات التي تُنتَجُ بهذه المناسبة.. وعلى الرغم من أنّه لا يختلف اثنان في أنّ المعرض الدولي للكتاب تظاهرة ثقافيّة هامّة، يجب الاحتفاءُ بها كثيرا، فهي فرصة جيّدة للاحتكاك بين المثقّفين، ومناسبة رائعة لتشجيع النّاس على القراءة والاحتفاء بالكتاب، وقد بدأتْ تؤتي أُكْلَها في السّنوات الأخيرة،فقد حدّثني أحد الأصدقاء من النّاشرين الذين لهم حضور على مستوى معظم المعارض التي تنظم في العالم العربي قائلا: إن ما تبيعه دور النشر في معرض الجزائر، أكبر دائما مما تبيعه في بقية المعارض التي تقام في بقية دول العالم العربي، ولذلك فهي تحرص دائما على الحضور إلى الجزائر بأكبر عدد ممكن من العناوين، وهو أمر جيّدٌ لما له من دلالة على الشّغف بالكتاب من قِبَل الأُسَرِ الجزائريّة، حتى وإنْ قلّلَ من أهميّة ذلك بعض المتابعين الذين يقولون: إن كتب الطبخ وبعض الكتب السّطحيّة التي على شاكلة “كيف تمتلك قواما رشيقا؟” هي الأكثر مبيعا!.. ولكنّه على كل حال يبقى سلوكا يستحق التشجيع طالما أنه يدلّ على الاهتمام بالكتاب مهما كانت طبيعتُه، إذ يمكن تفسير الإقبال على الكتب البسيطة بكون المعرض عموميّا، يُلبِّي رغبات كل الشرائح دون أن يقتصر على أذواق النخب الأكاديميّة فقط.. إلا أنّه يجب التنبيه إلى أنّه آن الأوان إلى ضرورة الانتقال بمثل هذه التَّظاهرات من مرحلة الاستعراض الثّقافي، إلى مرحلة الفعل الثّقافي، بمعنى أن نحرص على أن تساهم الحركيّةُ الثقافيّة في صناعة إنسان جديد متحضِّر،يمتلك سلوكا مُهذَّباً وذوقاً راقيا، باعتبار أنّ الثّقافة فِعْلٌ حضاريٌّ يُحقِّقُ التهذيبَ في الذوق والفكر والسلوك، ولا يتحقّق ذلك إلا إذا واكب هذه التّظاهرات نقدٌ وتقييمٌ موضوعيٌ لمضامينها، فليس من الطبيعي، أن لا تخضع للتّقييم تظاهراتٌ كبيرةٌ تُصرفُ عليها أموال ضخمة، مثل الصالون الدولي للكتاب أو تظاهرة تلمسان عاصمة الثّقافة العربيّة، أو قسنطينة عاصمة الثّقافة الإسلاميّة، أو بقيّة المهرجانات التي تقام بمناسبات مختلفة، للوقوف على الاضافات الثّقافيّة الواقعيّة الملموسة التي تُحقِّقُها.. إنّ من أخطر الأشياء، أن تنحرف الأمور في الشّأن الثّقافي إلى خانة الاستعراض والتّباهي بالأرقام مثلما يحصل في القطاعات الأخرى،فلا يكفي التّباهي بحجم التّظاهرات الثّقافيّة، والنّدوات الفكريّة التي أُقيمتْ، والأفلام التي أُنجزتْ، والكتب التي نُشِرتْ،والجوائز التي مُنِحَتْ، دون ذكر الإضافات العلميّة والثّقافيّة الحقيقيّة التي نلمسُ آثارها في الواقع.. إنّ الأهمَّ هنا هو أن يجيب النّقد الموضوعي على السؤال: وماذا بعد؟ هل هناك فعلٌ ثقافيٌّ حقيقيّ؟.. هل هناك صناعةٌ لِلْوَعْي؟.. هل هناك تغييرٌ ملموسٌ في الذّهنيّات؟.. هل هناك حضورٌ للذّوق الرّفيع والاحساس بالجمال؟.. هل هناك تكريسٌ للمشاعر والقِيَم الانسانيّة النّبيلة؟..هل هناك بَصَماتٌ دوليّةٌ للثّقافة الجزائريّة؟.. ما تأثير كل ذلك على تعميق الإحساس بالمواطنة؟..