تأتي القمة الثلاثية بين رؤساء كل من روسياتركيا وإيران في مدينة سوتشي الروسية كاستمرار لآلية “الأستانة” لحل الصراع السوري، في وقت يشوب الملف السوري العديد من التطورات الميدانية والسياسية مع بداية 2019، الامر الذي يمكن أن يمثل خطرا وتهديدا حقيقيا لعملية حل النزاع في البلد إذا ما انفرد كل واحد من هؤلاء الفاعلين بأجندته الخاصة. من هذا المنطلق جاءت أهمية هذه اللقاءات الدورية بين قادة البلدان الثلاثة رغم الاختلافات الظاهرة والخفية التي تجمع “ثلاثية الأستانة”. يحاول ثلاثي “الأستانة” التأكيد على أهميته كمحور أكثر تأثيرا في الملف السوري في مقابل المحور المعادي للنظام والذي تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية بمشاركة كل من الاتحاد الأوروبي وإسرائيل والدول العربية المعادية لنظام بشار الأسد. رغم أن الكثير من الملاحظين يرون أن أرضية “الأستانة” جاءت منافسة لمؤتمر جينيف الدولي لأصدقاء سوريا والذي انعقد بقيادة غربية الا أن القائمين على أرضية الأستانة وعلى راسهم روسيا يؤكدون أن تحركاتهم في إطار هذه الأرضية هي فقط عبارة جهود إضافية لإنجاح قرارات مؤتمر جنيف. وهنا تبرز نية كل من تركياروسيا في اشراك العواصم الأوربية في عملية حل الأزمة السورية وكذا في عملية إعادة الاعمار التي تحتل موقعا أساسيا في جميع المحادثات الخاصة بالأزمة السورية. وتجسيدا لهذه الرؤية تم انشاء “رباعية إسطنبول” والتي تضم كل من روسيا، تركيا، فرنساالمانيا. وإذا ما أردنا تحليل موقف كل طرف من أطراف ثلاثية الأستانة سندرك مدى الصعوبات التي مازالت تقف في طريق حل الأزمة السورية. فروسيا التي تعتبر اللاعب رقم واحد في المعادلة الدولية داخل الأزمة السورية والداعم الأكبر للنظام السوري تسعى لحل العديد من المسائل الناشئة في ظل التطورات الأخيرة للملف السوري. بجانب محاولة اشراك العواصم الأوربية في حل الأزمة وفق المنظور الروسي تسعى كذلك موسكو لإشراك دول الخليج في عملية إعادة الاعمار والتي ربما ستنطلق مع نهاية العام الحالي، ويبدو أن روسيا لا تريد أن تتحمل أو بالأحرى لا تستطيع أن تتحمل لوحدها عملية إعادة إعمار سوريا بعد الحرب، فالاقتصاد الروسي يعاني من مشاكل عديدة جراء العقوبات الغربية وكذا انخفاض أسعار المحروقات. وهنالك سبب آخر يدفع بروسيا للعب ورقة الدول الخليجية والذي يتمثل في موازنة الدور المتعاظم لإيران في سوريا، والذي يهدد النفوذ الروسي في البلد. وفي إطار الصراع الروسي الإيراني في سوريا تساءل بعض المراقبين عن مدى تواطؤ الجانب الروسي في الهجمات التي شنتها القوات الجوية الاسرائيلية على الأهداف الإيرانية رغم وجود منظومتي الدفاع الصاروخي الروسيتين أس 300 وأس 400 والتي كانت قادرة على اسقاط أي أهداف معادية في المجال السوري. وقد تطور صراع النفوذ الروسي الإيراني الى مواجهات داخل الجيش السوري نفسه، حيث ذكرت العديد من المصادر الإخبارية أن فرقة النمر بقيادة سهيل الحسن المقرب من روسيا والفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري قد دخلتا في مواجهات مفتوحة لبسط النفوذ الميداني الأمر الذي أدى الى التدخل الروسي للإيقاف هذه المواجهات. بالانتقال الى الطرف التركي فان العداء التركي اتجاه كل من النظام السوري والتنظيمات الكردية المعارضة أدخل صانع القرار التركي في معضلة حقيقية. وقد كثفت تركيا من تحركاتها في الشمال السوري خاصة بعد الإعلان الأمريكي بسحب القوات العاملة في سوريا. فأنقرة تواجه الان خطرا كبيرا من قوات سوريا الديمقراطية التي ستبسط سيطرتها على منطقة شرق الفرات في حال ما إذا انسحبت القوات الأمريكية من المنطقة بدون ترتيبات معينة، الأمر الذي سيرغم تركيا ربما على التدخل العسكري في سوريا مع كل ما يحمله الأمر من مخاطر وصعوبات. ونذكر هنا أنا تركيا لم ترد انسحابا أمريكيا من المنطقة لكنها كانت تفضل تغييرا في السلوك الأمريكي اتجاه الجماعات الكردية المتوقعة على الحدود التركية السورية. وان اعلان الانسحاب الأمريكي جعل منطقة شرق الفرات محط أنظار جميع الفاعلين في الأزمة السورية. وترى كل من روسيا وإيران أن الحل الأمثل هو عودة القوات النظامية للسيطرة على هذه المنطقة حفاظا على الوحدة الترابية لسوريا ودحر ما تبقى من تنظيمات إرهابية في المنطقة، هذا الخيار لم يلقى بعد الدعم التركي الكامل. لكن الفشل التركي الحالي في تطبيق اتفاقية تسوية الوضع في ادلب يجعلها في موقف ضعيف لرفض مثل هذا الحل في منطقة شرق الفرات. منطقة ادلب هي كذلك احتلت مساحة كبيرة في المحادثات حيث أكد الجانب الروسي على ضرورة تطبيق الاتفاق الثنائي بين تركياوروسيا بشأن انشاء منطقة عازلة وتصفية التنظيمات الإرهابية في المحافظة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني والتي تعتبر المسيطر الحقيقي على محافظة ادلب. وبالعودة الى منطقة شرق الفرات فان المسألة الكردية فيها تشكل أعقد وأصعب نقطة في الأزمة السورية لما يتمتع به الأكراد من قوة ميدانية ودعم شعبي ودولي متزايد وذلك رغم اعلان الانسحاب الأمريكي الذي أثار مخاوف الأكراد في المنطقة، الذين ضغطوا على الإدارة الأمريكية لتأخير هذا الانسحاب قدر الإمكان. على الرغم من الاختلافات العميقة بين دول محور “ثلاثية الأستانة” الا أن قمة سوتشي تبين مرة أخرى أن صناع القرار في العواصم الثلاثة يدركون تماما بأن الحوار المشترك هو الطريق الوحيد لحل الأزمة السورية بطريقة تحفظ مصالحهم القومية في سوريا وفي المنطقة ككل. رشيد كوار كاتب وباحث أكاديمي بجامعة موسكو